الثلاثاء، 31 مارس 2020

قراءة في قصيدة حداثية



قراءة في قصيدة حداثية
د.محمد فؤاد / ديب السلطان *

إن ما يتوخاه هذا البحث، الكشف عن النظام الجمالي للتعبير الشعري، من خلال إلقاء الضوء على الظواهر الايجابية التي تحققت في الأداء الرمزي، ضمن أنساق دلالية مكتنزة بالحركة والدينامية، تثري العمل، وتزيد من كثافته الإيحائية؛ بحيث تكون قادرة على استيعاب الرمز الأسطوري للشهيد ياسر عرفات.

Summary of Research
A reading in a modern poem

This research tries to explore the aesthetic system for poetic expression through shedding light on positive phenomena which are achieved in symbolic performana which is abundant of mobility and dynamism symbolism found in the poem enriches the literary work and pinpoints its positive dimensions which is able to absorb the mythological symbol Yasser Arafat.

تقديم:
الشاعر ضمير الأمة والبوصلة الدقيقة الحساسة التي تشير إلى حقيقة الاتجاهات مهما اختلفت الفصول وتغيرت الأنواء، لذا يتحتم عليه أن يكون مستقلا، يعبر عن نفسه بحرية وصدق، ومواجهة الظلم بأشكاله ورموزه، ومعايشة قضايا الأمة والإنسان، إيمانا منه بدور الشعر ورسالته في التغيير، فليست هناك قضية أرغمت الإنسان العربي المعاصر، على أن يعيش فوق حافة التوتر والتحفز والإحساس بضرورة التوحد، لمواجهة التحدي مثل المأساة الفلسطينية بشكل عام، ومؤامرة اغتيال رمز هذه القضية الشهيد ياسر عرفات بشكل خاص.
فبعد أن أتيحت لي فرصة قراءة قصيدة الشاعر د. شوقي الطمري، قررت اختيارها مدونةً شعرية للبحث، وهذه القراءة محكومة بظرف خاص، فهي ليست قراءة زائر عابر، و إنما قراءة أولى، ربما تحتاج لمعاودة التأمل والإنضاج، وكل ما أتمناه أن تكون محايدة وبريئة، تسعى إلى إثراء العمل الفني، من خلال البحث عن الدلالات بكل الوسائل دون الرجم بالغيب.
قسمت هذا البحث إلى ثلاثة مباحث رئيسة، تناولت في المبحث الأول فضاء النص، وحمل المبحث الثاني عنوان اتساق السرد، وجاء المبحث الثالث تحت عنوان تراسل الحواس، ثم أنهيت بخاتمة تلخص أهم نتائج البحث.
أولاً: فضاء النص:-
وهو الفضاء الكلي للمعنى العام، والجمالي الذي يتولد عبر تيارات التواصل بين المبدع، والنص، والمتلقي.
"فتواصل المؤلف بالقراء من خلال الدلالة الجمالية، يتم بفضل تولد طاقات تخييلية جمالية متجانسة، تتوالى عبر الهيكل المادي للنص، ومشاركة المتلقي للمؤلف في استعداد التواصل النفسي، عبر العمليات الفنية التي تخلق تفاهما حول متتاليات، رمزية أو أسطورية، ونماذج انثروبولوجية تخييلية، وهذه النماذج تتجلى باعتبارها أدوات عالمية في التمثيل التخييلي الذي يقوم به الإنسان للعالم"
[Bousono, Carlos: Teoria de la expression poetica Madrid 1996 page 35]
عند القراءة الأولى نخشى أن يكون شاعرنا قد نسف كل الجسور، وعندئذ نلجأ إلى التأويل والتخريج، حتى نعثر على الدلالة الصحيحة لمشهد شعري.
لاسيما أننا أمام قصيدة حداثية، تختزل الفراغ، وتقتل الصمت اللغوي، وتسقط الثرثرة في الكلام، فتصبح النتيجة لونا من التكيف التصويري والدلالة غير المباشرة كالشظايا المتشيئة تمثل حالة الشاعر النفسية.
لعل هذه القصيدة تقف على الأعراف؛ إذ تقع بين التعبير والتجريد، بين المرآة والنافذة، ويتمثل تحديداً في تلك القصيدة التي تمتع فيها الدال أي الجسد التعبيري، بنوع من الهيكلية المنتظمة، والحسية في كثير من الأحيان، والمشوقة أيضا، لكن المدلول، أي النية التي يتعلق بها فهم المقصود بالضبط في النص، وتتجمع في بؤرتها عناصره الدالة، فهي تراوغ المتلقي فلا يكاد يمسك بها حتى تفلت من يده، وتنزلق إلى منطقة أخرى.
فالقصيدة تجربة فريدة لا تعتمد على صياغة تقليدية مألوفة، بل ترتجل خطواتها في كثير من الجرأة والجسارة، محققة درجة عالية من الإنجاز المتميز في جماليات القصيدة الحداثية بطريقة عفوية أصيلة، و قدراً كبيراً من الاتساق، عبر وحدة الدال مع تعدد المدلول، مستفيداً من التجارب الشخصية والقومية الحميمة، يتكئ عليها في تجميع خيوطه، وتكثيف صوره، وتكوين عناصر شعرية القصيدة المشحونة، بما يمكن أن نطلق عليه "الدلالة المرجأة" إذ أنها تبدو للمتلقي كنص شعري من الطراز الأول، نلمح استدارتها وارتفاعاتها ومساحتها الكلية، نحوم حولها من الخارج، ونتلصص عما بداخلها، لكن أبوابها موصدة، لا تريد أن تطلعنا على أسرارها بيسر، فهي تبث فينا الوجل والرهبة والاحترام، لكن علينا أن نبتكر أسطورتها، أن نتخيل لون الحياة، فيها ومن ثم فهي بحاجة إلى قارئ خاص، يتنبأ بدلالتها المرجأة، ويجمع شظاياها المبعثرة.
حيث احترقت شفرات شعرية عديدة، منذ أكثر من نصف قرن، وأصبحت رماداً تذروه رياح الماضي البعيد.
ويكاد يختفي الهجاء ويضمر الرثاء، ويُشَّكلُ في مسارب جديدة، وقد أدرك شاعرنا انه لا بد أن يقدم لنا شفرة شعرية ذات صبعة أيديولوجية مخالفة للتقاليد القديمة، فكانت هذه القصيدة الحداثية التي نحن بصدد قراءتها. لكن شعور الصدمة ينقل مجال الصراع إلى داخل الإنسان، عندما يستحيل الحزن إلى غضب، والغضب إلى تمرد وثورة، وهذا ما يختاره الشاعر في تمثيله لأكثر المواقف تلقائية وطبيعية.
فالقصيدة تكشف عن مهارة التعبير الجدلي عما لا يبين بيسر وسهولة، وذلك عبر تلاشي الحدود من فواصل التاريخ، ومعالم المكان، وحلول الشعر في الكون تمثيلا لشوقه الدائب، حتى يصبح فعل خلق لواقع رؤيوي، لا يلبث أن يحل محل الواقع العاجز.
وبذلك تتراجع سيطرة صورة المكان، لتحل محلها صورة الكائن والكينونة ذاتها بشكل متداخل؛ وإذا تأملنا القصيدة بعمق ودقة، ينتصب أمامنا رمز لنوع من الكآبة اللارومانسية يمكن أن نطلق عليها كآبة قومية، لأنها لا تركن إلى هذا اللون الهادئ المتناغم من الحزن القار في أعماق النفس، نتيجة للتأمل في مواجد الحياة وأسرار الكون، وإدراك عجز الإنسان وتصوره تجاهها، ولكنها تتولد من شعور يقيني بالصدمة، التي تلقاها الشاعر من فقد قائده رمز الأمة في ظروف غامضة مريبة، من أحلك المراحل التاريخية التي يمر بها الإنسان العربي، مما ولد شعوراً بالحزن والألم المحبط المكتوم، الذي يعتصر القلب والروح معاً ويتمثل في النبرة الأليفة للبوح الودود بحب هذا الشهيد الفقيد بقوله: "يا ياسر عرفات" التي يمتزج فيها الحزن بالحب، والماء بالنار، والدم بالأحجار، كي تنبت باقة شعر عفوية تنادي الحبيب الشهيد ياسر عرفات، وتتوجه بحنان نحو الملايين الذين تصاعدت آهاتهم بفقده.
فكل شاعر عربي حر لا بد أن تكون له قضية واضحة محددة، وبالرغم من عدم وضوح رموز هذه القصيدة، فإنها لم تفقد أهميتها وقيمتها وقدرتها على التأثير، كما أن التعقيد والغموض الذي يسيطر على لغة ورموز هذه القصيدة، قد يعكس الغموض الذي أحاط بفقد القائد الشهيد ياسر عرفات باعتباره أحد أبطال هذه القصيدة، وأهم رموزها الأسطورية، ومركز ثقلها الدلالي، فهي شخصية أثيرة لدى كل عربي حر، بل هو شخصية تفرض نفسها على الشاعر وعلى قصيدته.
عرفات هو رمز هذا الواقع المؤلم، واقع الضعف الشديد، والتخاذل الأشد، واقع الحياة في الوهم، وتجاهل الواقع، واقع الصورة الخلابة التي لا تخفى وراءها إلا الخراب والأصوات الجعجاعة التي لا تنتهي إلى شيء.
عرفات هو الإنذار الذي يعلقه الشاعر على رموزه؛ ليقول لنا بأَن الكثير من جوانب حياتنا أصبحت مثل القائد الشهيد والوطن الشهيد:
إذ لم يعد الموضوع هو المحور الذي تدور عليه التجربة الشعرية المعاصرة، بل أصبحت الذات الشاعرة، وما يعتريها من حزن وأسى، وما يصبغ رؤيتها للحياة والأشياء، هي مركز الثقل الشعري، أصبحت هي الفاعل الرئيس لفعل الشعر وبؤرة عالمه، إلا أنها ليست الذات المتوحشة المعزولة، بل الذات الشاعرة التي استوعبت الكون، وتمثلت الحياة في حركتها الفوارة.
ولعل أبرز ملامح هذه القصيدة يتمثل في نزوع واضح للاختزال على مستويات عديدة، ومعايشة حميمة للصيغ التراثية القارة في الواجدان العربي، مما يضعنا أمام مفارقة أولى في التجديد عبر القديم، كما أنها تلغي الثرثرة التي لا طائل من ورائها، إذ يعود باللغة إلى حالتها الإشارية الأولى في إيجازها، ولنتتبع بعض مظاهر هذا الاختزال منذ المقطع الأول في القصيدة والذي يستهله بقوله:

أحمل اسمك في لحم البرق
وتغتسل النار بجلد الرايات
أحمل اسمك في صدري لؤلؤة
هذا الزلزال دم الأحجار على الساحات
يا ياسر عرفات

تبدأ القصيدة بتسجيل بعض المشاهد والعناصر المتناثرة مثل: لحم البرق، وتغتسل النار بجلد الرايات، "وإن هذه المشاهد ليست مجرد كلمات متراصة، وإنما هي رموز أكثر شمولاً وأعمق تعبيراً عن تجارب إنسانية حية.
هذه جملة شعرية طويلة، تتألف من جمل نحوية منفصلة، تعتمد في معظمها على صيغ المضارعة الحالية؛ حيث تسند منها ثلاثة أفعال إلى المتكلم ، لكن الملاحظة السريعة لها تشير إلى أنها لا تبني حركة سردية في الزمن، ولا تكون حدثا متصلا، فليس بوسعنا للوهلة الأولى، أن نتفادى التشتت الشديد الناجم عن انخفاض درجة النحوية في هذا المقطع، لذا يقتضي الأمر ضرورة التأويل المجازي، وافتراض معادلات أخرى تستقيم بها الدلالة وتتماسك.
هذا الأفق البعيد الذي تستشرفه القصيدة عند مقطعها، بفتح نافذة دلالية تخترق على مستوى آخر، البنية التي كانت تبدو مغلقة للقصيدة.
فالقصيدة تضعنا في قلب مشكلة الترميز منذ البداية؛ إذ تحتاج لجهد نقدي وذائقة حساسة لفك شفراتها.
من هنا تبدأ رحلة القارئ مع الشاعر؛ بعدما يدخل حرم القصيدة، ويتحتم عليه أن يشترك مع الشاعر في إعادة إنتاج الدلالة الشعرية في مطارداته المضنية، وعذاباته الروحية الممضة.
على أن جزءاً جوهريا من دلالة هذه القصيدة لا يتمثل في المعادل المراوغ، وإنما يعكس على وجه التحديد في الطاقة المشعة من مفرداتها، والمتولدة من الجمع بين المتناقضات. وهو ما يجعله يكسر هنا رقابة الإيحاء التقليدي، الذي يخلق بعلاقاته الجديدة إيماءً آخر وندرة شديدة، تلك الندرة التي تلتف بدورها بشبكة من الإشعاعات العاطفية والشعرية الفريدة.
الحركة الأولى في القصيدة، والكلمة الافتتاحية، هي الفعل أحمل المسند لضمير المتكلم المفرد، وهو الشاعر وهو بداية الغياب.
ثم يليه الفعل تغتسل، ثم يتكرر الفعل أحمل مرة ثانية، ثم يعقبه كلمة الزلزال الذي يجعل الأشياء تفقد نظامها في الواقع، فضلا عن أثرها النفسي على المتلقي، إذ تخلخل نظام الأشياء والنفوس، ليكون هو الخاصية الدلالية التي تشكل دينامية الأداء الشعري هنا.
على أن التحول من التكلم إلى الغياب والخطاب، إنما هو مظهر لا يدل على الائتناس بصحبة النفس، بقدر ما يشير إلى الخروج من الجلد، والتحدي لحركة النفس الهاربة، فالتجريد هنا ليس مجرد حركة بلاغية نشطة، بل هو تمثيل مأساوي لانشطار الشخصية في جهدها الخارق لملاحقة الذات، والإمعان في الغموض إلى آبار الوعي الباطن العميق.
وتمضي القصيدة بتسجيل بعض المشاهد والعناصر والصور المتناثرة مثل البرق، واللهب، والزلزال، والدم الذي يغطي الساحات، والأمواج العاتية.
إن هذه المشاهد ليست مجرد كلمات متراصة، وإنما هي في السياق تتخلق معاني مجردة ورموزاً أكثر شمولاً و إحاطة من مجرد مظاهرها الحسية وأعمق تعبيرٍ عن تجربة إنسانية حية، وراء تلك المظاهر، فالشاعر قد انعكست تجربته الشعرية في أسلوبه التعبيري "فاستطاع أن يعبر بالرؤيا المتنقلة التي تجمع بين المتناثرات في حركتها السريعة لتصوغ منها معالم فلسفته الخاصة" ]محمود و أمين العالم وآخرون- مأساة الإنسان المعاصر في شعر عبد الوهاب البياني- القاهرة 1996، ص40[.
غير أن اللافت في هذا المقطع من الوجهة التقنية في التعبير اللغوي أمران:
أولهما آلية تغييب الدلالة، عن طريق كسر النمط المنطقي، بالجمع بين الأضداد عند تشكيل الصورة في مثل: لحم البرق، وتغتسل النار، ودم الأحجار، طيور من ذهب، والشارع موج، وغيرها؛ الأمر الذي يدفع القارئ لتشغيل طاقته وإعمال فكره في تتبع احتمالات الدلالة الهاربة؛ بغية اصطياد ما يتراءى له منها.
والثاني: تكوين مجموعة من المتواليات الصوتية، الكفيلة في سياق الشعر التعبيري، بتحقيق درجة قصوى من الغنائية، بتكرار فعل أحمل مرتين، ونمط الجار والمجرور في لحم البرق، بجلد الرايات، في صدري، على الساحات، من ذهب، في الأفق، ونمط الإضافة، لحم البرق، وجلد الرايات، دم الأحجار، وهذا يراكم عدداً كبيراً من التوازيات الغنائية، لكنها لا تقوى على توجيه استراتيجية النص نظراً لفعالية آلية التغييب الدلالي، وهذه إحالة منطقية، ليس هناك ما ينقذها شعريا من رمز أو تصوير، سوى أن نحفر تحت الألفاظ لتومئ لشيء آخر.
وربما يكون الشاعر قصد من النار الكلمات، واعتبر الشعر لهباً مقدساً يضرع للسماء حتى لا تخبو جذوته.
فإن شبكة الإشارات الرمزية والأسطورية، سرعان ما تلتئم حينئذ، لتقوم بتجاوز حالة الاتهام والارتباك التي نجمت عن المقطع السابق.
من هنا يمكن لنا أن نتبين مستويات الرمز، طبقا لدرجة شفافية المادة الاستعارية التي تقدمه. فكلما اشتدت كثافتها حجبت ما تشير إليه وأصبحت أكثر دخولا في مجال الرؤية، بما يترتب على ذلك من تحولات أسلوبية.
لذا فان هذه الرموز من مثل: لحم البرق، النار التي تغتسل بجلد الرايات، لؤلؤة ، دم الأحجار تندرج في مجال التخييل باعتبارها رموزاً ذات كثافة تحجب الرؤية "ولا تترك لدى المتلقي سوى آثار استجابة عاطفية بعيدة، وعن طريق الربط بين هذين المستويين من الانتشار والعمق يمكن للباحث أن يقيس أهميتها ودلالتها"
[Bousono, Carlos: Teoria de La expression Poetica. Madrid 1996, page 135-136].
على أن الشاعر هنا لا يكف عن استخدام تقنيات التعبير الحديثة، في توظيف مفردات الطبيعة، فلحم البرق يُحمِّله الشاعر اسم الشهيد عرفات، والنار تغتسل، والزلزال، ودم الأحجار على الساحات، والشارع موج، وطيور من ذهب، والأفق يذهب نحو روابي الوطن.
وهنا نلمس تقنية خاصة تمتد في القصيدة؛ إذ تتجسد في تلاحق الصيغ، وتجاوب الأصداء، لتصعيد التمثيل النفسي حتى بلوغ ذروة الاستغراق والنشوء، فالكلمات هنا لا تنهض شعريا بما تدل عليه فحسب، إذ أن المسافة بين الدال والمدلول ليست قصيرة فالأسماء لا تشير إلى مسمياتها الحقيقية، بل تعمد إلى التعتيم من خلال الترميز مما يضع المتلقي في حالة توتر جمالي.
وتقوم مفارقة التقارب النفسي الشديد من الشهيد الذي يمثل رمز الوطن، مع البعد المكاني بفقد الاثنين معا، يتولد عنه حس عارم بالألم والغضب والثورة يشحذه التناص في قوله:

أحمل اسمك في لحم البرق
وتغتسل النار بجلد الرايات
أحمل اسمك في صدري لؤلؤة
هذا الزلزال دم الأحجار على المساحات
يا ياسر عرفات
الشارع خلف الشارع موج
والموج طيور من ذهب
في الأفق الذاهب نحو روابي الوطن المصفود

هذا الأفق البعيد الذي تستشرفه القصيدة عند مقطعها، يفتح نافذة دلالية تخترق على مستوى آخر، البنية التي كانت تبدو مغلقة للقصيدة، وهذا يقدم بدايات الحركة لطيور الذهب المتجهة نحو روابي الوطن المصفود، والمبشرة بإرهاصات التغيير الذي يتغنى به. ففي قوله: "الشارع خلف الشارع موج". يتناص مع الآية القرآنية: "كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب" ]سورة النور، آية 40[. فيتجلى ما فيها من شعر وما في الشعر من روح القران.
وما في القران من روح التغيير الذي يتجلى بشكل أوضح في الأسطر الشعرية التي ينهى بها هذا المقطع والتي يقول فيها:

هزي أغصانك يا مريم
هزي الأرض ونادي ياسر عرفات
يأتيك على صهوة جرس البارود
الوطن شهيد يتبعه ألف شهيد

ولا تقف الرواية عند هذا الحد، بل تقدم رمزا آخر هو مريم العذراء التي تتماهى مع ياسر عرفات، واعتبارها المعادل الموضوعي له، لتوحي للمتلقي بمدى بشاعة الظلم الذي لقيه كلاهما من الأقربين، ناهيك عن الظلم الواقع من الأعداء، وبيان دور كل منهما في حمل الرسالة، وعندئذ يصبح عدم إشباع التوقع في النص تطويعاً جمالياً للرسالة الشعرية، على أساس بتر السياق القصصي، وإدراج هذا الجزء الناقص في بنية النص.
كما نلاحظ أن القصيدة "مؤلفة على هامش بنى فكرية وأشكال فنية موروثة، سواء كانت من التراث العربي أم من غيره.
والالتقاء مع هذه البنى الفكرية والشكلية يتراوح بين الإشارات البسيطة إلى صور حضارية وفكرية وتاريخية، وبين الاعتماد الكلي على هذه البنى؛ بحيث لا يمكن فهم النص دون الرجوع إليها" ]على الشرع- بنية القصيدة في شعر أدونيس دمشق 1987، ص68[ ومعنى هذا أن الإضمار هو القاعدة الأساسية هنا بدل الذكر، لكن المشكلة الدلالية تبدأ عندما يتراكم الإضمار.
و إذا كان الدخول في طقس الخليقة في القصيدة هو الصياغة التعبيرية التي تستقطب عدداً من الاختراقات اللغوية مثل: لحم البرق، تغتسل النار، الزلزال دم الأحجار، طيور من ذهب، صهوة جرس البارود.
فإن محاولة استكناه سر البدء تعتمد على الخلفية الدينية والميثولوجية المثقوبة في النص، وإن كانت لا تكفي بدورها لتفسيره؛ بحيث نرى في نهاية الأمر أن الإطار الثقافي اللازم لتأويل الأبيات يترنح بالاختراقات اللغوية والتداخلات المتجاورة لأية مرجعية، فمنظومة الألوان الرامزة تأتلف حمرة اللحم، والبرق، والنار، والجلد، والرايات الحمراء، واللؤلؤ، والدم، والبارود، والشهيد المدرج بدمائه. وهي تتسق على الصعيد الشعري، غير أن الصورة الشعرية تصبح مسرفة في سطحيتها لو طابقت المنظور الأيديولوجي، فهي لا تتفجر أساسا إلا بفضل صراع أول صدمة حداثية؛ منذ مطلع القصيدة، عندما يحمل الشاعر اسم الشهيد ياسر عرفات في لحم البرق، وتغتسل النار بجلد الرايات، ودم الأحجار يزلزل الأرض تحت أقدام الأعداء، والشارع موج ... هذه الصور الشعرية الرؤيوية، بفضل تراكبها وتعقدها، وتناقض عناصرها الظاهرة، تعمد إلى خلق طبقة عليا من الدلالة الرمزية، ذات الصبغة الجدلية، تخترق أحادية المنظور الأيديولوجي، وتبث بديلا عنه عالماً متعدد الإشارات والدلالات. إن هذه العناصر الحسية، التي تتمتع بحيوية كبيرة، يخضع من الوجهة الاستبدالية لتقنية ترميز مكثفة، تفقد بعض الكلمات خصوصيتها، عندما تساق في نسق واحد مع ما يختلف معها، فلا يبقى منها سوى الجوهر الذي يؤلف الوحدة الدالة في البنية الكلية للنص الشعري، عندئذ يصبح اللون الأحمر رمز الثورة والدم والشهادة والتحرير هو المولد التعبيري للرؤية الشعرية.
ويمضي المقطع الثاني والحافل بأشكال عديدة من التناص – في رحلة التماهي بين الشهيد ياسر عرفات وبين ذاته في صميم كينونتها وبين اسم فلسطين

هذا الطير يحوم حواليك
ويبني عشا في صدرك
ينحت من أمطار الزنبق اسم فلسطين
هذا الطير على شريانك
تحضنه أنت
وتحمله الريح بعيداً
أنت
تمد له في الماء الجاري غصن الزيتون
تحرسه هذا المنقار الفضي
يغرد فوق الأشواك
ويغفو فوق غدير الليل ويبكي فوق الأسلاك
يفزع حين يرى جرحاً في جذع الشجر العاري
تحرسه أنت
وتغذيه
تغطيه بسيف النار
يحمل أحزان العمر ويمضي
يرمي حجراً ويعود
هذا الحجر على أيدي الشارع بركان ورود
هذي الأحجار لنا
للسهل، وللموج
وللآفاق الموعودة بالشهد عصير الغابات
يا ياسر عرفات

يعمد الشاعر في هذا المقطع إلى كسر نموذج الزمن التاريخي المعروف، ليلقي بتجربته في محيط الزمن الشعري الأسطوري، وزمن الشعر كما يقول (أو كنا بيوبات) الناقد المكسيكي الكبير: "ليس هو زمن الثورة المقيد بالعقل الناقد، المستقبل للخطط الخيالية إنه الزمن السابق للزمن الذي يعود إلى الظهور في نظرة طفل، ذلك الزمن الذي يختلف جذريا عن التاريخ" ]وليد غائب صالح – عبد الوهاب البياتي من باب الشيخ إلى قرطبه ترجمة وكتابة – بيروت 1992، ص11[
يظهر في النص خيط يربط أطرافه، ويمثل عصبه، وهو يتجاوز حدود الكائن البشري، ويتماهى مع قصه نوح عليه السلام، وإذا كانت قصة مريم هي الخلفية التي ألقت بظلها المضيء والمتقطع على متاهات المقطع السابق، فان قصة الطوفان هي التي تقوم فيما يبدو بهذا الدور، في الفقرة الحالية لتجعلها اشد تواريا وعتمة وغرقا في بحر الحداثة، وثقوب الميثولوجيا.
فقد استطاع الشاعر توظيف عناصر الطبيعة، بكل ما تحمله من أجنة أسطورية، أسهم السياق النصي في توليد كثير منها، لتشترك في موكب البعث المحيط بهذا الطوفان، ليبدأ تحولها من ألفاظ ذات دلالة حسية مباشرة، إلى رموز يوظفها لخدمة أسطورته التعبيرية المميزة.
فالطير، والريح، وأمطار الزنبق، والماء، وغصن الزيتون، والليل، والشجر كلمات تجاوزت بكل تأكيد معانيها الحسية والرمزية المعتادة، من خلال الوسيلة التي اصطنعها الشاعر لتحقق هذا التحول الوظيفي، تمثلت على وجه التحديد في خلق مجموعة من المؤشرات السياقية المصاحبة ذات طابع مثيولوجي في معظم الأحيان.
فأسطورة الطوفان وحمامة نوح، التي حّملها غصن الزيتون، تلقى بظلالها على النص، وتنهض في القصيدة لتسهم في خلق موكب التحليق، فالعودة إلى مثل هذه الرموز التراثية، تمثل بعثاً لغوياً يضاهي في شحذه لدلالة الرمز الجديد، ويساعد في تخليق الشعرية في النص.
ما يهمنا في هذا هو ما يتجلى فيه، من شعور بالحاجة الملحة إلى صناعة الرمز من المواد الأسطورية، أو غيرها، نظراً لأن العناصر التعبيرية المباشرة قد فقدت فاعليتها، وانسحبت إلى هامش الحياة، ومن ثم فإن الأسطورة والأسطرة، التي تتمثل في تحويل العادي إلى أسطورة، هما اللذان يعيدان الشعر إلى قلب الحياة النابضة بالحرارة وبراءة البكارة.
فان صناعة الرموز تتبع آليات أقل كثافة وأكثر شفافية، تهتم بالتوصيل الدلالي والشعوري، ولا تعتمد على مجرد الإيحاء المبهم العميق.
وما تضيفه هذه الرموز أنها تحفر الطابع الأساسي لكل خلق أسطوري، والسمة المميزة له سمة التقديس، وبدون هذه القداسة تصبح الأسطورة خرافة والرؤيا كابوسا مستقلا، لكنها قداسة الإنسان الذي لا يزال ينادي ويبتهل بجنون، حتى يستحضر أغلى رموزه وهو يعانق العالم في بيت من الشعر.
وهناك مظهر مهم من مظاهر الشعر الحديث في هذا المقطع، هو اللجوء إلى الخرافة والأسطورة إلى الرموز.
"ولم تكن الحاجة إلى الرمز إلى الأسطورة أمس مما هي اليوم، فنحن نعيش في عالم لا شعر فيه، أعني أن القيم التي تسوده قيم لا شعرية، والكلمة العليا فيه للمادة لا للروح، وراحت الأشياء التي كان في وسع الشاعر أن يقولها أن يحولها إلى جزء من نفسه تتحطم واحداً فواحدا، أو تنسحب إلى هامش الحياة؛ إذن فالتعبير المباشر عن اللاشعور لن يكون شعراً فماذا يفعل الشاعر إذن، عاد إلى الأساطير إلى الخرافات التي ما تزال تحتفظ بحرارتها لأنها ليست جزءاً من هذا العالم عاد إليها ليستعملها رموزاً" ]أساليب الشعرية المعاصرة، د.صلاح فضل-دار قباء للطباعة والنشر، 1998، ص112[.
هنا نلمح طرفاً من توتر العلاقة بين الدوال مباشرة، لكن القارئ لهذا النص مجبر على عقد صلة خاطفة، بين الرموز والنص، ومحاولة تجاوز التوتر أو التناقض الذي ينهض بينهما.
هناك جملة احتمالات دلالية تتزاحم بفعاليتها في اقتناص مجال المعنى، أقربها ما درجت عليه الثقافة المحدثة من اعتبار غصن الزيتون رمز السلام منذ مشهد سفينة نوح عليه السلام؛ حيث كانت الحمامة الممسكة بمنقارها غصن الزيتون رسول السلام، إضافة إلى ما يمثله هذا الرمز من قداسة، وارتباطه بالأرض الفلسطينية باعتباره هوية للإنسان الفلسطيني ورمزاً للتجذر والتشبث بالأرض.
وإذا ما عدنا إلى الضمير (أنتَ) المخاطب به ياسر عرفات، وهو الفاعل الحقيقي للفعل تمد غصن الزيتون؛ مما يجعله يتماهى تماما مع سيدنا نوح، الذي بعث بغصن زيتون تحمله الحمامة، وكأن الشاعر أراد أن يضع عرفات في هذا النص في مصاف الأنبياء والرسل، وإذا كان الليل يقترن في وجدان الشاعر العربي - منذ الليل النابغي، وخيوط الشعر الأسود الليلي عند امرئ القيس، ومواجد الليل العذري – بالوحدة الموحشة، والمواجهة العارية مع أحزانة المفجعة، فإن شفرة الليل عند شاعرنا تصب في شفرة جديدة، تغرس بذور الألم، وتنزف دماً أسود في وجه المستقبل، لتجعل من الليل المعادل الرمزي لرؤية الشاعر للاحتلال والظلم، الواقع على الأمة العربية والشهيد ياسر عرفات، من خلال تضافر مجموعة من الوسائل التقنية مع هذا الرمز الكثيف الشفيف، لتكون شفرة أيديولوجية تورق في نص شعري يبقى، بعد أن يتحول التاريخ محاولة للإمساك بجوهر اللحظة الشعرية، وكل ما يصبح بوسعنا أن ننجو به من دلالة المقطع، هو أن الشهيد ياسر عرفات لم يرحل وحده، بل أخذ معه المعاني المباشرة للرموز السابحة في النص، وذلك بتغييب مرجعية القيم وتبديل مفاهيمها؛ بحيث يصبح الطير حمامة نوح، والماء الجاري الطوفان، والغدير سكونا وظلاماً، والشجر المورق عارياً، والسيف من نار، والبركان ورود، وعصير الغابات شهداً، وهي خلافا لمعانيها ورمزيتها المألوفة، عندئذ ينحو الشعر إلى تمثيل خلخلة النظام المعنوي للكون وعناصره، بإدخال الاضطراب على علاقات الإسناد في اللغة.
ولعل هذه التقنية التي تؤدي إلى تغييب الدلالات الواضحة للكلمات والرموز، من الملامح الرئيسة في شعر الحداثة؛ إذ ترتكز على فلسفة محدودة مدارها أن الموجود المطلق تتحقق في الإنسان؛ أي باعتباره لغة أو كائنا لغويا قبل كل شيء؛ بحيث يولد هذا المطلق في اللغة لا في أي مكان آخر.
وهذا يتفق تماما مع يراه أدونيس من "أن جوهر الشعر الحديث قائم على عكس القيم الواقعية، إنه يبدل هرمونيا الواقع بهرمونيا إبداعيا، ويجد حقيقة خاصة وراء وقائع العالم، إن على الشاعر المعاصر - لكي يكون حديثا بحق – أن يتخلص من كل شيء مسبق، ومن كل الآراء المشتركة، إن هدف القصيدة الحديثة هي القصيدة نفسها فهي عالم كامل" ]أدونيس – محاولة في تعريف الشعر الحديث – مجلة شعر – بيروت 1959، ص81[.

تحملك صبايا الأعشاب
صبايا الخندق، والدم والدمع على عربات
سنين الألم الدامي
والفرح المسكون بسحر الآيات
ترقصن صبايا الأعشاب

تسفر القصيدة عن وجه آخر في هذا المقطع المستمد من التراث الديني والتاريخي العالي في توترة والمختلف في شعريته.
فإذا ما أردنا أن نحفر تحت الكلمات، يتبين لنا بأن الشاعر يتوغل هنا في استبطان الخارج، واستنطاق عوالم شخوصه المتقابلة، ونقل لغتهم وإشاراتهم، إنه لم يكتفِ بأن يمتح من ذاكرة الشعرية العربية فحسب، بل ألقى روحه في زحام التاريخ الديني التوراتي الذي يمكن أن يُستنبط من بين السطور، ويُفهم من السياق وبعض الرموز، كصبايا الأعشاب، وصبايا الخندق، من خلال بعض الأفعال المصاحبة كالفعل تحملك، ترقصن وهو ما يستحضر تاريخ اليهود الأسود منذ سالومي التي جعلت مهرها رأس يوحنا المعمدانَ وقد رقصت به محمولا على طبق من فضة أمام الحاكم الروماني هيرودرتو إلى يومنا هذا.
كما أن صبايا الخندق تشير إلى الأنظمة العربية الحاكمة، التي تآمرت على الزعيم الشهيد ياسر عرفات، فتبرز أمامنا صورة الحداثة الشعرية، وهي تتمزق لتجر وراءها حداثة التراث؛ حين تتصاعد عملية الترميز، واستحضار الرموز التراثية من أعماق التاريخ، فتتم عملية التماهي بين مقتل ياسر عرفات بتدبير الصهاينة، ومن وراءهم الصليبية المعاصرة، وأدنابهم من المستغربين، وبين مقتل يوحنا المعدان بتدبير اليهود وتنفيذ الحاكم الروماني هيرودوت، أمام إغراء الغانية اليهودية سالومي هذا ما لم يذكره النص ويمكن قراءته من بين السطور في قوله:
"صبايا الأعشاب، وصبايا الخندق و الدم والدمع، ترقصن صبايا الأعشاب" وهذه العبارات تطفح بمفارقة الجمع بين الحياة والموت، من خلال الجمع بين الرقص وبين قطع رأس يوحنا المعمدان، لترتفع الشحنة الدلالية وتعلو على مستوى الرمز مشارفة أفق الأسطورة، حين تتحول أجراس القدس ببريقها وأصواتها إلى نداء الدم في العروق، وتستحضر الأبطال الذين لهم علاقة بالقدس أمثال عمر بن الخطاب، وصلاح الدين، وياسر عرفات، وتتصاعد الطاقة المشعة في النص بقوله:

وهذا الكون المولود
يتالق كشعاع الماء الصافي
كخرير بريق الأجراس على باب العمود

هذه هي إحدى آليات الرؤية البارزة كي تكون شعرية تجريدية؛ لصناعة نسق جديد ومتفرد في علاقات الزمان والمكان، ومراقبة دينامية العبارة، وهي تكشف عما هو جوهري في هذه اللقيا، عما يتجاوز الحس المادي، ولا بد حينئذ أن يكون شيئا ميتافيزيقيا مجرداً تتم التكنية عنه هنا بالضوء، ولا ننسى أن النور كان دائماً الرمز القدسي لما لا يمكن شهوده، وهو يستغرق محيط الرؤيا، كما أن الماء رمز الطهارة والقدسية، وعلاقتها بالنور، وبالأجراس، وبباب العمود بوابة القدس الرئيسة، علاقة روحية وثيقة منذ فجر التاريخ الإنساني.
وكأن النص يستحضر رمز الفينيق، ذلك الرمز الأسطوري الفلسطيني، الذي يخرج من رماده فينيق جديد، يحفظ استمرارية الحياة، فموت ياسر عرفات فيه حياة شعبه وأمته التي ولدت من رحم الموت، الذي اختطفه بتدبير الصهاينة، الذين رمز لهم بصبايا الأعشاب، ومن والاهم من الحكام العرب الذين رمز لهم بصبايا الخندق.
وإن لم يكن استلهام هذه الرموز من بين السطور أمراً يسيراً على غير المهتمين بهذا النوع من الشعر، وكما يقول الدكتور صلاح فضل:
"على أن انقداح الرؤيا لا يتم آليا بمجرد هذه التهيئة التعبيرية، بل يتطلب شرطا لازما، هو أن تكون العناصر الدالة في الخطاب الشعري، قد تم تحضيرها لدى المبدع والمتلقي في فترة حضانة سابقة وكافية، أي بحيث يكون للكلمات تاريخ رمزي عميق في سياق الخطاب الشعري الكامل للمبدع، وتكون صلة المتلقي بها ومعاشرته لازدواج معانيها، قد اختمرت وتعتقت" ] الأساليب الشعرية-صلاح فضل، ص238[.
فالعناصر الفاعلة في هذا المقطع، وهي صبايا الأعشاب، وصبايا الخندق، تحملك، يرقص ... لها طبقات عديدة من الدلالة، تراكمت لدى القارئ من خلال استحضار الرموز المشار إليها من بين السطور، من خلال إلمام القارئ بالتراث الديني والتاريخي للصهاينة.
الأمر الذي يجعلنا نؤثر عدم المبادرة بتحديد مدلولاتها، اعتماداً على معانيها اللغوية ولاستنباط هذه العلاقة الدلالية والرامزة لا بد للاجتهاد في إقامتها.
ثم يمضي النص في تساؤلاته الاستنكارية.

أين مقاتلك الفارس يا سيد صبرا وشاتيلا
يأخذك الحزن وحيدا
يتماوج في الأحشاء نبيلا
خانتك عهود الكلمات البراقة
جاءتك الأحجار خيولا
أين مقاتلك الفارس
أين الشهداء
هذه الأحجار على ساحات الوطن الغالي
تكتب تاريخ العظماء

وقد تكون الأحجار رمزاً للانتفاضة أو رمزاً للعتاد الحصين حين تتحول إلى خيول مقاتلة كان ينتظرها ياسر عرفات، ومات بعد طول انتظار، وكأنه كان فارسا بلا جياد، لكن الأحجار لم تخذله، جاءته فعززت صموده ووفرت له سبل النصر والغلبة.
وقد تكون الأحجار هي اللبنات التي ستبنى الحصن المنيع، والسور العظيم الذي يحمي الوطن والقائد على حد سواء.
وقد تكون رمزاً لسور القدس، عاصمة الدولة الفلسطينية المنتظرة، التي طالما حلم بها ياسر عرفات، وقد تكون النصب التذكاري الذي سيخلد الأبطال والشهداء، وفي مقدمتهم ياسر عرفات، وقد تكون القبر الذي ضم رفاته.
وقد تكون الهرم الأعظم، الذي يخلد تاريخ العظماء، وعلى رأسهم ياسر عرفات، وقد تكون كل هذا، وقد لا تكون شيئاً على الإطلاق.
لذا تتعمق مأساة الشاعر من الظروف العصيبة، والغموض المثير للريبة والشك حول وفاة الشهيد القائد ياسر عرفات.
فيتفاقم الجو المأساوي المسيطر على القصيدة في هذا المقطع، نلمس ذلك في لهجة الشاعر الحزينة وكلماته الحادة، ويكفي أن نلتفت إلى اللغة المستخدمة، لنجد الشاعر يعيش في صراع حاد بين حزنه وإصراره العميق على التحدي، والتغلب على الإحباطات الكثيرة والكبيرة، التي أفرزتها الظروف الدولية، والأنظمة العربية يقول:

يا ياسر عرفات
أكتب اسمك فوق الصخر
وفوق الريح
وفوق جلود المقتولين
ارسم اسمك فوق محار البحر
وفي خفقات عيون التين
تأخذني معك
وأحملك على كتفي وأغطيك بدقات القلب
نحارب خلف متاريس بنادقنا المنشورة فوق الجبهات
يتداعى الليل ويلمع قمر كوميض الفجر
على أشلاء القتلى والمأسورين
ترسمك عناقيد الغضب المتأجج
في الكف المعروق وراء زنازين الصرخات
يا ياسر عرفات
يرسمك الفرح غدائر، يرسمك مناشير وأعلام
يأتيك العصفور النائي،
في الغربة في الوحدة في سفر الآلام
في الزمن المعصوب العينين على أشجار شتائي
تطلع في أسوارة جرح مثقوب
قال الراوي: الوطن القادم سيكون
كتاباً من ورق النعناع
ومن ثمر الأحجار على الحائط مكتوب
سنابل كالشمس على معطفك
مرايا
تتلألأ فوق رمال الشاطئ صدفات
يا ياسر عرفات

فأهم ما نلاحظه في هذا المقطع هو ظاهرة الالتفات.
فنلاحظ أنه لم يكد يتحدث عن نفسه بصيغة المتكلم ليحدد منظور الرصد للمشهد في عبارة :
"أكتب اسمك فوق الصخر
وفوق الريح
وفوق جلود المقتولين
أرسم اسمك فوق محار البحر
وفي خفقات عيون التين

حتى يبادر بالقفز إلى ضمير المخاطب بقوله: "تأخذني معك" حيث نجد الشاعر يكثر من استخدام الأفعال المضارعة المسندة إلى ضمير المتكلم، فهو يتحدث عن تجربته الشخصية، عن حزنه وألمه وحبه للشهيد وللوطن المصفود، تظل شخصية الشاعر هي الفاعلة الحقيقية هنا، هي أنا الموصولة بالجدود وبالوطن وبالشهيد، ثم نجد ضمير جمع المتكلمين ملتحم بالفعل "المحارب" ليصبح الضمير هوية الشاعر والشهيد والوطن وامتدادا بشرياً ومكانياً، ثم ينتقل من ضمير جمع المتكلمين إلى مجموعة من الأفعال المسندة إلى ضمير الغائب في مثل قوله: يتداعى الليل، ويلمع القمر، ترسمك عناقيد الغضب، يرسمك الفرح، يرسمك مناشير، يأتيك العصفور، تطلع في أسوارة جرح، تتلألأ فوق رمال الشاطئ. إن هذه الضمائر الغائبة، كما يقول علماء الشعرية وأساليبها، يدفع بالنص إلى دائرة الشعر الملحمي بقوة، إذ يركز تمحوره حول الشخص الثالث على الوظيفة المرجعية، لكن جدلية علاقته بالضمائر الأخرى خاصة ضمير المتكلم – وهي التي أفتتح بها هذا المقطع – هي التي ترسم منحنيات الدلالة لكن الأقدح من هذا التهجير في الصيغ والصفات، ما يحدث هنا من تهجير آخر دلالي.
فرائحة التين والنعناع من أهم روائح الشخصية الفلسطينية، لارتباطها الحميم بالأرض، وهذا ما يكاد يميز موقعها في جانب ويشدها ناحية دلالة أقرب إلى الرمز في إطلاقها، فعلاقة بعض الرموز، كالعصفور النائي والغربة والوحدة والزمن المعصوب العينين، وأشجار شتاء الشاعر، والجرح المثقوب، وورق النعناع ، وثمر الأحجار والسنابل، والمرايا، ورمال الشاطئ والصدف، تتفاوت دلالتها في خصوبتها ودرجة أبهامها، مما يفضي بالنص إلى تعدد المستويات وتشابكها. وهكذا فان الرؤيا تشرع في التشكل، عبر تجميع عدد من الإشارات المستخدمة في سياقات جديدة، تشبه الحُلْم المؤلف من مشاهد بصرية، لكن تكوينها لا يتم إلا في حالة واحدة، هي إغماض العينين، والدخول في غيبوبة الحواس، وما يفعل فعله في توليد الدلالة، إنما هو شعور بتماسك البنية الجمالية للنص عبر التفاعل التأثيري النشط بين مجالات المفردات المتبادلة بحيث تبدأ في تأليف منظومة متجانسة وشاملة.
فربما كان العصفور هنا يرمز للفلسطيني المهاجر النازح عن دياره قسرا، وربما كان يرمز إلى ضعف المدد والعون، الذي يأتي للمقاومة المحاصرة في فلسطين على وجه العموم وفي المقاطعة برام الله – والتي كان محاصرا فيها عرفات - على وجه الخصوص، وربما كان العصفور رمز البشارة بالأخبار السارة ألم يكن هدهد سليمان مجرد عصفور، وهذا أقرب إلى السياق.
أما الوحدة والغربة قد تكونا رمز الصمود والتحدي، والأمل بالعودة إلى الوطن بعد تحريره، وقد تكون رمز المعاناة والألم وضياع الأمل في العودة، والمعنى الثاني قد ينسجم أكثر مع السياق حيث الزمن المعصوب العينين، و أشجار شتاء الشاعر، حتى تؤلف مع غيرها مشتركاً دلالياً أشد ملاءمة للسياق هنا، لاسيما بعد استشهاد ياسر عرفات، وقد يكون الجرح رمز الألم والأمل في الوقت ذاته، لكن الجرح عندما يكون مثقوبا قد يقتصر على الألم دون الأمل، يوحي بالوهن والضعف والتراجع، كما أن ورق النعناع قد يشير إلى الوطن الجميل المزدهر، أو إلى هجرة المقاومة الفلسطينية من لبنان قسرا عام 1982 إلى تونس التي يشكل فيها ورق النعناع مع الشاي المشروب الأكثر انتشاراً ورمز الضيافة فيها.
وقد يرمز إلى هشاشة الوطن المنتظر، ومراوغة الصهاينة والغرب بالوطن الموعود، أما ثمر الأحجار فقد يشكل النتائج الإيجابية للانتفاضة، وما تحقق فيها من خطوات على طريق التحرير، وقد تكون رمز خيبة الأمل، فالأحجار لا تثمر وكأن كل هذه الاتفاقات والدروب التي سلكتها القيادة الفلسطينية قد ذهبت أدراج الرياح، ولم تسفر عن شيء إيجابي، وقد تشير السنابل إلى الخصب والرخاء والأمل في الغد، والحلم بالوطن المحرر.
وقد يكون المقصود نقيض ما فهم منها، فربما ترمز إلى خيبة الأمل وقسوة الوهم، فالشمس هي القريب البعيد، النار المحرقة والضوء الذي يشكل السراب الخادع الذي لا يمكن إمساكه، فكلما اقترب منها جسم أحرقته وجذبته إلى ثقوبها السوداء.
أما المرايا قد تشير إلى الحقيقة المرة التي يجب أن نلتفت إليها ونصدقها، وقد تكون رمز الأكذوبة والوهم والأمل المخادع لاسيما إن كانت هذه المرايا مقعرةً أو محدبة، تصغر الكبير، وتكبر الصغير، وتقرب البعيد، وتبعد القريب، وتشتت الضوء في أكثر من اتجاه. فلا تستطيع أن تقبض على ما بداخل هذه المرايا التي تبدو خادعة كالسراب فوق رمال الشاطئ، مثل الصدفات الجوفاء، التي لا تسمن ولا تغني من جوع، وقد تكون غير ذلك كله.
لكن الاحتمال الثاني أشد ملاءمة للسياق النصي لاتفاقه مع تشفير الرموز اللغوية السابقة في هذا المقطع، وبلورة مشترك دلالي واحد، يمكن أن يكون أكثر صدقا في التعبير عن تجربة الشاعر، والموقف الرديء الذي تمر به الأمة لاسيما بعد اغتيال الشهيد ياسر عرفات بشكل أو بآخر.
فالعبارة اللغوية المعتادة هي التي تضيق وتنكسر، أما العبارة الشعرية فهي سحر اللغة التي لا يمكن أن تستنفد حيلها و إمكاناتها في خلق أوضاع تعبيرية ورمزية متجددة وتتجاوز ضيق العبارة التواصلية عندما تعيش فضاءَها الحر بما لا تستنفده جميع الكشوف الجمالية، فهو فضاء يمتد في المستقبل وطاقة المجهول فيه، فهي تتخلق في رحم اللغة ذاتها، فجاكوبسون مثلا يرى "أن الإبهام ملمح لازم للشعر وأن مكائد الغموض توجد في جذور الشعر نفسها، وليست الرسالة هي التي تصبح وحدها غامضة فحسب، وإنما يصبح المرسل والمتلقي غامضين أيضا"
]جاكوبسون – رومان – قضايا الشعرية – ترجمة محمد الولي ومبارك حنون – الدار البيضاء:1988، ص51[.
وهنا نجد أنفسنا حيال خاصية طريفة في هذا النوع من الشعرية؛ إذ تنقلب فعالية العناصر فيها للنسق الذي تم توظيفها في إطاره.
ومن ثم يصبح بوسعنا أن نقول: إن هناك نتيجة ملازمة لتدمير البنية التعبيرية على المستوى الدلالي، وتتمثل في إبطال مفعول الغنائية، التي تتراكم على المستوى الإيقاعي، إذ أن طبيعته الغنائية تعتمد على التكرار الودود المتوقع، والتوليد الإيقاعي الذاهل في ملكوت النعم.
لكن عندما تكشف العبارات عن أنيابها للقارئ، وتتحدى منطقه وتستثير يقظته فإنها تبلغ به درجة من التوتر، يستحيل عليه عندها متابعة النغم الهادئ المنساب، ذلك لأن بؤرة الاهتمام في عملية التلقي، لا يمكن أن تتوزع على نقطتين متخالفتين في الآن ذاته، الأمر الذي يجعل هناك تلازما بين انخفاض درجة النحوية في النص، وتدني فعالية مستواه الإيقاعي.
ويرى رائد الحداثة في الشعر أدونيس أن هناك علاقة وثيقة بين كل من الكتابة الحداثية والصوفية والسيريالية، إذ يرى: "أن وضعية الكتابة في كل منهما تبدو غالبا مليئة بالغرابة والتناقضات والغموض وتفكك الصور، الأمر الذي يجعلها تبدو عصية على الفهم" ]أدونيس – الصوفية والسيريالية- بيروت، 1992، ص137[
وهو ما يتبدى لنا في هذا المقطع:

هذي الأنوار الغرقى في البحر
الغرقى في الظلمات
تصطك نوافذها المفتوحة فوق الأمواج
أين تهاجر، حولك هذا البحر طويل
حولك هذي الأكياس من الرمل
عليها الأمراس وهذي الأفواج
أين تهاجر، لبيك اضرب
ثم اضرب بعصاك الماء
وارجم، فيد الله عليك
ولا تخش الإعصار ولا هذي الأنواء
يحميك الوطن الطالع في رعد أناشيد الطلقات
أغرسك على شرياني،
أغرسك على هذا الشريان
أغرسك فتنبت موالاً في كل زمان
أغرسك على كبدي
منديلا في العين
وطاحونا بيدي
يا سيد صبرا وشاتيلا
يا حارس بلدي

يبدو أن دراما الخروج الفلسطيني من لبنان، قد فجرت وجدان الشاعر، حين نراه في الأنوار الغرقى في البحر وفي الظلمات، وفي نوافذ السفن المصطكة فوق الأمواج، وفي التساؤل الاستنكاري عن وجهة الهجرة وحوله بحر طويل، وأكياس الرمل والأمراس والأفواج، بحيث استطاع التلوين الاسنادي للأفعال يقول:

هذي الأنوار الغرقى في البحر
الغرقى في الظلمات
تصطك نوافذها المفتوحة فوق الأمواج

فمأساوية الموقف وهو خروج المقاومة من لبنان بصحبة القائد ياسر عرفات، توغل في الظلمات وتجعل الحدث طاغيا على الذات؛ حيث تصبح الرؤية تعرية للأعماق ورحلة مخزية في ضمير الوجود العربي.
ويأتي النبا العظيم، ويعقبه الفزع الأكبر ويظل الشاعر يتساءل عن المصير المجهول والمرعب، وهو يرمز له تارة بالبحر وتارة بأكياس الرمل، وتارة بالظلمات، يجسد ما يكمن فيه من قوة درامية تبلور رؤيته الفاجعة للهجرة القسرية الثانية للمقاومة من لبنان، بعد اجتياح القوات الإسرائيلية للبنان عام 1982.
وعندئذ تسعفه ذاكرته النصية بأغنى وأخطر مقابل قرآني يمتاح منه بقوله:

أين تهاجر لبيك اضرب
ثم اضرب بعصاك الماء
وارجم فيد الله عليك

وقد حاول بذلك الاقتراب التناصي والتماهي مع قوله تعالى: "فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر" ]سورة الشعراء، آية 63[
ومع قوله تعالى: "إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم" ]سورة الفتح، آية 10[.
ويرتكز التناص هنا على طريقة توليد الجمل مع اختلاف نسبة عالية من المفردات ودلالات التراكيب.
يربط الشاعر بين حصار الرئيس عرفات في بيروت لأكثر من سبعين يوما، من قبل الصهاينة، وعملائهم، وحصاره في المقاطعة لأكثر من ثلاث سنوات من قبل الأعداء أنفسهم، وبين موقف موسى عليه السلام عندما حاصره فرعون وجنوده، ولم يكن في وسع كل منهما النجاة إلا بحصول معجزة إلهيه للخروج من هذا الحصار، وهي فعل الأمر الرباني، اضرب بعصاك، ليضعنا في السياق الإلهي للشعر ورؤيته مستثمراً عدداً كبيراً من الصور والرموز الميثولوجية والدينية، ليتكئ بشكل مثير على منظومة المعتقدات المتباينة اليهودية المستمدة من التوراة، والإسلامية المستمدة من القرآن، والمتصلة بشق البحر والخروج من الحصار؛ وإذا كان قد تشابهت ظروف الحصار وتشابهت عدالة قضية ورسالة كل منهما، غير أن وجهة كل منهما قد تباينت؛ حيث نجا موسى عليه السلام من الحصار بالخروج إلى سيناء والتيه فيها؛ بينما كانت وجهة القائد الشهيد ياسر عرفات السماء؛ بما فيها من مجهول وهو ما ينسحب على قضية فلسطين.
وتمضي صياغة هذه المقطوعة، بشكل لا يخفف من حدة التجريد فيها؛ إذ يؤدي تقديم ظرف المكان "حولك هذا البحر طويل"، "حولك هذه الأكياس"
وظيفة التركيز وبيان شدة الحصار و إحكامه على الوطن المحتل ممثلا برموزه، يتكرر ذلك مرتين في جملتين بتوزيع إيقاعي متوازن.
كما يعمد النص في هذا المقطع إلى تكوين بعد ثالث، بقوة ضغط مجموعة من الأفعال تصطك – تهاجر – اضرب – ارجم، أغرسك التي تكرر أربع مرات، مما يجعلها تحفر في مركز الدائرة، وتنغرس في لحم المتلقي، بعد أن غرس الشاعر رمزه ياسر عرفات في كل مكان من جسده، على شريانه، وعلى كبده، وفي عينه، فنبت موالاً في كل زمان وطاحونا يطحن الأعداء والمتخاذلين حارسا أمينا للوطن..لكن خوف شاعرنا على حارس هذا الوطن، ورمز نضاله، جعله يبحث له عن مكان آمن لا يستطيع أن يصله الأعداء، ولم يكن أمام الشاعر من مخبأ سوى أن يحفره على جسده عضواً عضواً، ليكون ناقوس الخطر، الذي ينذر العالم بالأخطار الموجهة إلى قضية فلسطين، ورمز نضالها الشهيد ياسر عرفات يقول:

أحفرك على كفي
أحفرك على زهر الأزهار
أحفرك
فهذا الخنجر في الماء نبيذ الأمطار
أحفرك على عيني، أحفرك على ضوء العين
أحفرك على دمعي
جرسا للكون
يتراءى أمام القارئ عالمان كاملان ،أحدهما تمثله الرموز المتناثرة في القصيدة وهي كثيرة.
والثاني هو الحقيقة الفاجعة بفقدان الرمز ياسر عرفات، التي لا نقوى على إدراكها بملفوظ واحد، بل يحتاج الشاعر لتكرارها أكثر من مرة حتى تتفجر شرارتها العدمية في داخلنا، كما تعصف بقلب الشاعر، وتكاد تصبغ رؤيته للحياة وللواقع، نلمس ذلك في تكرار الفعل يحمل ومشتقاته ست مرات، والفعل احفرك ست مرات، والفعل أغرسك أربع مرات، والفعل تحرسه مرتين، والفعل اضرب مرتين.
من هنا فإن حركة الغضب، وهي عصب القصيدة الدلالي. قد انعكست حتى تسند صراحة إلى المتكلم في نهاية هذا المقطع.
على أن ما يلفتنا في هذا المقطع الأخير من القصيدة، إنما هو طبيعة العلاقة بين مكوناتها التاريخية، وختامها العبثي التجريدي، وهو تجربة الشاعر الحيوية المصيرية بأكملها درجة عالية من التماسك والتبلور في المدلول، بالرغم من تشتت الدوال.
حيث تنفلت الكلمة التي تمثل فيما نحسب به التجربة الشعرية، لكنها تأتي كمقولة عقلية تجريدية مطلقة، لم يتم تذويبها تماما في موقف حيوي، بل استحالت إلى أبعاد مشتتة، فانتهت بالكينونة إلى قرع ناقوس الخطر المحدق بفلسطين، فموت عرفات قد يكون موتاً في حياة القضية الفلسطينية أو حياة تولد من رحم الموت.
ثانيا: اتساق السرد:-
القصيدة طويلة نسبيا تتوزع على ستة مقاطع شعرية ينبني السرد في متن القصيدة بطواعية شعرية نسبية تسمح لها بنسبة من التماسك الظاهري من بروز عامل تشتت يوقظ توتر القارئ للاستجابة الذكية، ويثير تأمله الجمالي دون أن يربكه.
للسرد لغته وخواصه التعبيرية في تتابع أفعال الكينونة وتوالي المشاهد، وهي تكشف دينامية المواقف المعروضة.
فجميع مقاطع القصيدة تتجاوز في صياغتها المنظور الواحد، يعزز ذلك الالتفات بين الضمائر، إذ يبدأ المقطع الأول بضمير المتكلم، وما يلبث أن ينتقل إلى ضمير الغياب، ثم يعود إلى ضمير المتكلم ثانية.
من هنا نجد نمط السرد الشعري يتجاوز الوضوح والتحديد كما نلاحظ ظهور مظاهر الترائي والتبادل والالتباس بين أطراف هذه العلاقة، مما يؤدي إلى عدم انتظام معادلتها في النص، واحتمالات دخول أصوات أخرى، الأمر الذي قد ينشأ عنه التوتر الداخلي المطلوب في مثل هذه القصيدة الحداثية.
كما أن بنية الحلم المسيطرة على القصيدة تجعل الشعور الموحد جامعا إلى حد ما لأشتات مبعثرة بفعل النقل والرمز والتكثيف في هذه القصيدة.
ولتفسير العناصر الرمزية التي يوظفها الشعر الحداثي، ينبغي أن نعمد إلى ما يطلق عليه في النقد الحديث، وحدة المزاج التي تتولد في داخل النص، وتحكم علاقة عناصره وتساعدنا في تأويل الرموز المتجاوزة لفكرة المكان، حتى يمكن أن نعثر على جامع معقول وراء التشظي الظاهري في النص فالرمز الشعري كما يقول بعض النقاد: "يعني أولا ذاته بالعلاقة مع القصيدة، وإذن فأفضل إدراك لوحدة القصيدة هو عبر وحدة المزاج، المزاج بكونه طورا مع أطوار الانفعال، والانفعال باعتباره الكلمة الموجهة إلى اختبار اللذه أو تأمل الجمال. وبما أن الحالات المزاجية لا تدوم طويلا، فإن الأدب المعتمد على الرموز في جوهره متقطع، والقصائد المطولة إنما تتصل أجزاؤها باستعمال بنيات نحوية، هي الأكثر ملائمة للكتابة الوصفية منها للشعر، مثل بنية العطف، فالصورة الشعرية لا تقرر شيئا ولا تشير إلى شيء، بل هي تشير إلى بعضها البعض، وبذلك توحي أو تستحضر المزاج الذي يشيع في القصيدة" ]نورثروب فراي- تشريح النقد – ترجمة محي الدين صبحي – طرابلس – ليبيا، 1991، ص119[.
وهناك عدد من السمات الدالة في القصيدة من أهمها، خاصية التقابل التي تتجلى في أسلوب القطع والانتقال؛ حيث ينتقل الخطاب من معنى إلى آخر لا يرتبط به ارتباطا مباشراً في جمل صغيرة الحجم متوازية لا متراكبة ...
وهو إما تقابل خارجي ينشأ من توالي الجمل الاسمية والجمل الفعلية، أو تقابل داخلي ينشأ بين جملتين من جنس واحد .
إن وظيفتة الدلالية والجمالية تتمثل في تعدد الأصوات وحركية التعبير، وهذه أبرز خواص السرد الشعري على مستوى التكوين اللغوي المباشر، الأمر الذي يفضي بدوره إلى تجسيد المشهد وتقديمه لغويا من زوايا عديدة.
فنحن إزاء نموذج تركيبي يتمثل في ثلاثة عناصر:
-أفعال مسندة إلى ضمير المتكلم المفرد يتكرر كثيرا منها: أحمل، أكتب، أحملك، تأخذني، أغطيك، أغرسك، أحفرك.
-أفعال مسندة إلى ضمير الغائب يتكرر بعضها منها: تغتسل، يأتيك، يتبعه، يحوم، يبني، ينحت، تحضنه، يحمله، يفرد، يغفو، يبكي، يفزع، يرى، يحمل، يمضي، يرمي، يعود، تحميك، يتألق، يأخذك، يتماوج، تكتب، يتداعى، يلمع، ترسمك، يرسمك، يأتيك، تطلع، تتلألأ، تصطك، تخشى، يحميك، تنبت، خانتك، جاءتك.
-أفعال مسندة إلى ضمير المخاطب يتكرر بعضها منها:
هزي، تمد، تحضنه، تحمله، تحرسه، تغذيه، تغطيه، اكتب، ارسم، تهاجر، اضرب، ارجم، تخشى.
-وكما تفتتح القصيدة بجمل فعلية مسندة إلى ضمير المتكلم وهي: "أحمل اسمك في لحم البرق" فإنها تختتم كذلك بالصيغة نفسها وهي "أحفرك على دمعي جرسا للكون".
فيتخذ المتكلم صدارة الجملة للمرة الأولى، لأن الزمن زمنه والفعل فعله والرؤية رؤيته، يعتمد الشاعر على تشابك أدوار الفاعلية من الغيبة المرتبطة بالماضي القديم، إلى الحضور المتلبس بالتكلم، والمتراوح في الفعل الثوري بين المستقبلية والماضوية، حتى يخلص في نهاية الأمر إلى فاعلية الشاعر المتكلم لرؤيته.
مما يضفي على حركية القصيدة قدراً عاليا من الحيوية والاتساق، الناجمين عن التناغم والاختلاف معا، وهو ما يتميز به شعر الحداثة.
يقول الشاعر الألماني (هولدرين): "إن وظيفة الشعر هي تحويل العالم إلى كلمات، فالشعر يمتلك الواقع؛ إذ يرسم الحدود التي تفصله عن فهمنا وجاء فيلسوف الشعرية المعاصرة (هايدجر) ليضع لهذه المقولة العفوية صياغة فكرية عاتية: "إن الشعر يؤسس للكائن بكلمات الفم، الشعر يهب الأسماء التي تخلق الكينونة وجوهر الأشياء، فهو ليس أي قول ولكنه على وجه التحديد، ذلك القول الذي يستطيع بطريقته الفطرية أن يخرج للنور أي للوعي كل ما تحاول اللغة اليومية أن تلتف حوله وتربت عليه.
[Read, Herbert: Imagen E Idea trade Merico, 1975, Page 12]
فإذا التفتنا إلى حركة المعنى وجدناها تتراوح بين مجموعة من البدائل التي تشير في معظمها إلى نواة دلالية متقاربة، هي الحزن والغضب والحب والأمل.
فكأن المقطع يتلخص في جملة واحدة تتكرر بعدد من الأشكال المتباينة، وكأن المقاطع كلها تتكرر في المقطع الأول مع استبدال معجمي، ينحصر في شبه المترادفات، مع اختلاف الكلمات والرموز، فالأبنية النحوية نفسها، والروابط السردية والإيقاعية، دون أن تقلل من كثافتها التخيلية أو تحرمها من الترميز و التشتت بما يجعلها غير قابلة لإعادة القراءة وتجديد التأويل.
حيث يتعين على الشاعر أن يقوم بتحريكه في الزمان، حتى لا يستحيل إلى شيء استاتيكي جامد، فإن السرد هنا يتخذ طابعاً شعرياً بفضل الإشباع الإيقاعي الذي يتكئ على البنية العروضية البارزة بعنصريها من وزن وقافية من ناحية، وعلى عمليات الترجيع الصوتي المتمثل في تكرار الوحدات المعجمية، والأشكال النحوية، وبعض الفقرات التامة من ناحية أخرى. غير أن اللافت في النص إنما هو توتر من نوع آخر؛ إذ بينما نجده مشبعا بعناصر إيقاعية طاغية تطير به إلى آفاق عريضة. تنخفض فيه درجة النحوية نتيجة لتعاطف ما لا يتعاطف من ناحية كقوله:

أحمل اسمك في لحم البرق
وتغتسل النار بجلد الرايات

وصعوبة الدلالة الناجمة عن عدد من الانحرافات التركيبية من ناحية أخرى، مثل:
لحم البرق، تغتسل النار بجلد الرايات، صهوة جرس البارود، أمطار الزنبق، بركان ورود، عصير الغابات، صبايا الأعشاب، خرير بريق الأجراس، عناقيد الغضب، أسوارة جرح مثقوب، نبيذ الأمطار.
وإنما هو استهلال الحياة التوراتية، وحتى بعض الصور الحزينة التي تتخللة، لا تمضي وفقا للنسق التصويري المألوف، فعندما نجد وصف السنابل بأنها كالشمس؛ إذ لا يصبح اللون حينئذ هو مناط التشبيه، فاختيار العناصر الحسية التي تتمتع بحيوية كبيرة يخضع من الوجهة الاستبدالية لتقنية ترميز مكثف؛ حيث تفقد تلك الكلمات خصوصيتها، عندما تساق في نسق واحد مع ما يختلف معها، فلا يبقى منها سوى الجوهر الذي يؤلف الوحدة الدالة في البنية الكلية للنص الشعري، وعندئذ يصبح النموذج النحوي وهو هنا العطف – هو المولد التعبيري للرؤية الشعرية.
هذا هو النهج التجريدي، وهو مفعم بالحيوية، فالعناصر تتعدد فيه وتتمدد وتتحول؛ بحيث تكون منظومة شاملة متماسكة ذات دلالات متعددة، تختلف حولها القراءات وهي تسمح بتعدد الاجتهادات.
ويبدو أن الامتداد الأيديولوجي المطابق للتجربة الشعورية في القصيدة، والذي يفضي إلى درجة عالية من تماسك المنظور، كان يتطلب من جانب آخر انخفاضا واضحا في درجة النحوية عبر تكاثر حالات الانحراف الشعري، إذ لو اتسق نظام العبارات دون فجوات نحوية وبلاغية، والتأم نسيجها دون قفزات لبلغت درجة مفرطة من التماسك المبتذل أضعف قدرتها على توليد الرؤيا الشعرية.
إن هذا التشتت البارز في تركيب الجمل، كان يتم تعويضه أيضاً عبر تناسق إيقاعي غنائي.
من هنا فقد تحول الشهيد ياسر عرفات عبر هذه المتواليات النحوية، والمصاحبات الأسطورية العامة والخاصة إلى رمز كلي.
يقول (يوري لوتمان) "إن طريق المعرفة باختلاف وتنوع النص الفني لا يمر عبر التغني بفرادته، وإنما بدراسة هذه الفرادة باعتبارها وظيفة عدد من التكرارات التقنية ... فليس بوسع أحد إلا أن يمضي في الطريق، إما أن يصل إلى نهايته فهذا مستحيل، ولكن ذلك ليس عيبا إلا لدى من لا يفهمون شيئا عن المعرفة"
[Lotman, Yuri M. Estructura del texto Artistico. Trad Madrid 1988, Page. 104].
ثالثا: تراسل الحواس:-
النص ليس دائرة مغلقة، بل مجموعة من الدوائر المتداخلة، عبر عدد من التقنيات التعبيرية المتضافرة، يقوم بها الترجيع والإنشاء والتناص والأسطرة والترميز بالدور الأساسي في تكوين بنية النص، وتوليد دلالته المشعة طبقا لاستراتيجية حيوية فعالة، تحقق درجة عالية من شفافية التوازن والكثافة النسبية؛ بحيث لا تقع في الإبهام، وهو تحول العالم إلى كلمات؛ وإذا كانت درجة "لا معقولية التركيب في هذه القصيدة عالية بطريقة مرهقة للقارئ العادي، فإن الناقد يجتهد عادة في لم شتات التأثيرات المتباعدة وتبرير تقنيتها شعريا؛ إذ يقوم الشاعر بتجميع صورة ذهنية لوطن مستلب، عناصرها شذرات من مرايا مهشمة ومبعثرة في ماض ناء غائر في الذاكرة، ويتم ترتيب المفردات، أو الجمع بينها بشكل يكسر السياق الواقعي لصالح سياق حلمي يظل معلقا بزمن غائم مكبل بذلك الحلمي المطلق نفسه" ]إعتدال عثمان – نحو قراءة نقدية إبداعية لأرض محمود درويش- مجلة فصول القاهرة، 1984[.
ومن اللافت للنظر أن النموذج التصويري هنا، يعتمد على إبراز المكان، وما يتعلق به من أشياء وكائنات متشيئة، ومعنى هذا أننا لسنا حيال استعارات رامزة، بل أمام لون من المجاز المرسل في مجموعة من الدوال الكنائية المتناثرة؛ إذ لو اقتصر معناها على مدلولها اللغوي المعتاد لاستعصت على الانتظام في نسق معقول قابل للفهم مع جارتها، فليس هناك جامع مشترك بين ياسر عرفات ومريم العذراء سوى المكان الذي ينتميان إليه وهو القدس، والافتراء والظلم الذي وقع على كليهما من الأقربين، والصبر والتحدي ونبل الرسالة التي حملها كل منهما، وبين البرق والنار والبارود هو الخطورة والإحراق واللون، وما يجمع بين اللحم والدم والجلد، الصدر سوى أن كلها أعضاء حساسة في الإنسان.
وما يجمع بين اللؤلؤة والأحجار والساحات والشارع والذهب؛ أنها كلها عناصر من الطبيعة تمتاز بالصلابة، لكن لا نلبث أن نستشعر ضرورة العثور على خيط دلالي يبرز الوصل بين هذه العناصر جميعها، وقد نكتفي بأنها جميعا وجدت هناك في روابي الوطن المصفود لتصبح فلسطين هي مناط الصورة، لكننا إن جددنا في البحث عما يوحد بينها خارج إطار المكان، فلا بد أن نذهب بعيداً في التجريد لعمق الرمز الجامع بينها،وقراءة ما بين السطور من استحضار التاريخ الأسود لليهود، وما فعلوه مع الأنبياء والرسل، وما فعلوه مع ياسر عرفات والشعب العربي.
انتقلت القصيدة نوعيا إلى تقنيات التجريد حيث اتسعت المسافة بين الدال والمدلول وألفيناها حريصة على الإضمار، بيد أن هذا الإضمار بدوره لا يصل إلى الحذف النهائي لتشمل ألوانا من الترميز والتخييل؛ ففقدت اتصالها بالمعنى الواحد؛ حيث لا تفضي الإشارات إلى موضوع موحد، يمثل تياراً يمسك أطراف النص، على أن النتيجة الضرورية التي تصب فيها هذه التحليلات، تتمثل في تجاوز الحس إلى المجرد عبر فعالية السياق وآليات الترميز الشعري؛ إذ تلعب مظاهر الانحراف الإسنادي دورا أساسيا في انبثاق الدلالة وتشكيل الرؤيا، ولا يمكن ملاحظة ذلك إلا بتأمل التراكيب الشعرية.
هناك أمران يقومان بتهيئة المشهد للرؤيا الشعرية الخالصة، أولهما تعلق فعل الرؤية بالإرادة (ما أريد) لا بعملية الإبصار ذاتها.
ذلك بان هذا النوع من الرؤية لا يتم صراحة إلا عند إغماض العينين.
والثاني يتمثل في تداخل الحواس، وتجاذب معطياتها على النمط السريالي، فما هو بصري يقود إلى ما هو مسموع، وانعدام الحركة تتولد منه انصع الألوان، يأتي ذلك من علاقة الجرح بالشجر العاري، وبسيف النار، وبعصير الغابات، وشعاع الماء الصافي، وبريق الأجراس، وارتباط السكون بالحركة.
فنلاحظ على التوقوة تفعيل وتوظيف المعطيات الحسية والرمزية بأكملها في تبادل مثير، بما يمكن أن نطلق عليه تراسل الحواس، كبؤرة تجميع مكثف، مع التركيز على حاستي السمع والنظر.
لكن المهم الآن أن نجتهد في تكوين مفعول الرؤيا عندما يستحيل البرق إلى كائن حي له جسد من لحم ودم، وتغتسل النار بجلد الرايات، أي عندما تتبادل عناصر الكون مواقعها، الأمر الذي يضعنا في مفترق الطرق في التأويل الرمزي.
يبدو كل ذلك في درجة قصوى من التوتر، مع ما تفضي إليه العبارات من فضاء مضاد للحضور الحسي الذي يطمح هذا النوع من التعبير في تحقيقه.
من هنا تكتسب الجملة الشعرية حداثتها من انحراف التركيب وإيقاع الصور، مع وضوح المرموز له بانتظام، في دفقات التيار الوجداني للباطن للتجربة والمتناغم دائما مع إيقاع الوعي.
يقول محمود درويش: "على الشاعر أن يتداخل مع الواقع، وينسق معه بكلمات متحررة من الهجاء والخطابية المباشرين، وأرى من أنقى ميزات شعر المقاومة عادة الصفاء الإنساني الشامل؛ إذ يتمتع بحساسية شديدة بالتاريخ كجزء من تمسكه بجذور عميقة تعينه على الصمود" ]محمود درويش- شيء عن الوطن- بيروت- 1971-ص271[.
وربما أمكن بشيء من التأويل العثور على روابط احتمالية تجتهد في تخليق نسق ملائم لأصوات القصيدة المبعثرة.
لكن يظل التشذر هو السمة الأساسية المقصودة في هذه الفقرات في ذاتها وفي علاقاتها بما يحيط بها.
بيد أننا نلاحظ أن هناك درجة من العلاقة الطردية بين التكثيف والتشتت، إذ يترتب على فقدان التماسك الظاهري في النص، تشغيل نوع من الفعالية الجمالية تختلف عما هو معهود في الشعر العربي القديم.
فكثير من كلمات هذه القصيدة من خلايا التراث الحميم، لكن الشاعر يعيد تسمية الأشياء والحالات كي يجعلنا نتعرف عليها من جديد، يخلع عنها ما ألقاه من أوصاف كي يكسرها مرة أخرى فتتجلى أمامنا، فهو خالق دوال تعيد تكوين مدلولات.
وعلى هذا فإن درجة النحوية أو الانحراف في النعوت لا تبلغ مستوى الرمز اللغوي، وإن شارفت منطقة الاستعارة في بعض التراكيب.
الأمر الذي يقود إلى أنماط متوالية من الانحرافات اللغوية والتصويرية وفي مقدمتها تراسل الحواس.
"فالبنية اللغوية في الشعر لا تتحدد بالكلمات، بل بالصيغ، وعندما يتم تفكيكها إلى وحدات دنيا، بحثا عن أعدادها وحقولها وتبادلاتها، تكون قد فقدت موقعها في منظومة التركيب الشعري، وهي التي تمنحها أبرز فعاليتها الوظيفية موسيقيا ودلاليا، فإحصاء قوالب الطوب المتخلف عن هدم المعبد لا يعطينا سوى فكرة ضئيلة عما أقيم فيه من شعائر وصلوات" ]أساليب الشعرية، ص63[.

الخاتمة
من السمات الغالبة على حركة القصيدة بنيويا، توزع مراكز الثقل في القصيدة على مواقع عديدة منها، مع تمركز بؤرة الثقل في المقطع الأخير، الذي تتجمع لديه الخيوط المبثوثة في المشاهد العديدة.
ومما لا شك فيه أن شاعرنا، قد امتلك القدرة على الإبداع، والمزج بين عناصره بشكل فني متكامل، حين عمد إلى الالتفاف حول الدلالة، ليحملها دلالات معاصرة تتيح لها مجاوزة زمنيتها، وإقامة تواصل نفسي بين حالتي الغياب والحضور من خلال تكثيف المعطى الفني، والتعبير بدفقة لغوية مركزة عما كان مضطراً إلى شرحه أو الإسهاب فيه.
وهو يعتمد على الخيال في إعادة بناء لون من الانطباع الدلالي، ولا يتمثل عبر التعبير المفصل عن الأفكار ولا شرح نظامها المنطقي، بل يتجلى في إثارة الصور والأفكار في نفوسنا.
وهذا يكشف عن ولع شديد بمعايشة الصيغ التراثية، واستحضارها في مجالاتها الدينية والشعرية.
وخلاصة الأمر في هذه الإطلالة على بعض تقنيات الحداثة في هذه القصيدة نشير إلى:
-إن موقف الشاعر من تجاربه الحية لم يعد محصوراً في منظوره الفردي الفقير، وإنما أخذ يمتد إلى أدوار عديدة تتصل كلها؛ بالضمير الجماعي في حركته الرامية إلى تعميق وعيه، واحتوائه لمقتضيات الوجود التاريخي المباشر.
-إن أبرز تجليات الحداثة، وهي تعدد المستويات الدلالية، وامتداد الضمائر في الزمان والمكان، والاعتماد على عنصر المفاجأة المدهشة، وإقامة التوازي الحر غير المعقد ترتبط بموقع الضمير، ودوره في عمليات الإسناد والترميز.
-إن قيمة الصورة لا تبدو في قدرتها على عقد التماثل الخارجي بين الأشياء، وإيجاد الصلات المنطقية بينها، وإنما قدرتها في الكشف عن العالم النفسي للشاعر، والمزج بين عاطفته والطبيعة، يقول وردزورث في إحدى رسائله: "إن العواطف والصور يجب أن يتزاوجا ليذوب كلاهما في الآخر، ويتمثلا طبيعيا لدى الذهن في نشوة فنية" ]د. غنيمي هلال –دراسات ونماذج في مذاهب الشعر ونقده – دار نهضة مصر، ص83[.
-تكمن قضية الشاعر في الحرية، والديمقراطية، وحقوق الإنسان الفلسطيني في الهوية والوطن، والتي يمثلها الرمز القائد الشهيد ياسر عرفات، فالشاعر بهذا الحزن والشجاعة يمثل شخصية قلقة متمردة ثائرة على الواقع العربي والإسلامي والدولي، غير أن هذه الثورة تحمل في ثناياها الأمل الحي المتواصل.
-تمثل هذه القصيدة مظاهرة فنية متميزة، إذ تشكل نبراساً سياسياً وفنياً تحرك ما تجمد في عقلية العربي الذي طحنته عوامل التراجع والهزيمة.
-امتزجت التجربة الذاتية في هذه القصيدة؛ النابعة من الحزن والألم والمعاناة بالتجربة العامة القائمة على التمزق والتبعية والاستسلام، الذي يمثله الحكام العرب من ناحية، والغضب والتمرد والأمل الذي يمثله الشعب العربي من ناحية أخرى، وكأن الشاعر كان يعني بتحريض الأمة على الثورة ضد الخطر الكامن في ربوع الوطن سواء ما كان منه خارجياً أو حيك على أيدي الحكام الذين لا يقل خطرهم على الأمة من خطر الاستعمار الخارجي.
-اقتضى الموقف في القصيدة نقل مركز الصراع من الذات إلى العالم، من الهوية إلى الأرض التي تمثل البطاقة الجماعية للشخصية الفلسطينية.
-حاولت القصيدة تأسيس الكينونة لا بمنطق الحجاج العقلي والتاريخي، ولكن بمنطق إيقاظ الحلم وتشعير الموقف الثوري، وتسمية الأشياء بالكلمات العارية البسيطة، وما يحققه حينئذ لا يتمثل في مجرد التعبير عن القضية القومية، وإنما في خلق معادلها الشعري.
وأخيرا تذكرنا هذه القصيدة بقصائد ادونيس "التي ليس لها هندسة مغلقة ثابتة لأنها دفعة أو حركة، وليس لهذه الحركة بداية ولا نهاية، إذ لا ترتبط برباط متجانس، ولا برباط التواتر أو برباط السبب والنتيجة" ]خالدة سعيد – حركية الإبداع – دراسات في الأدب العربي الحديث – بيروت 1979، ص101[.

المصادر والمراجع:

1. القرآن الكريم.
2. الزعيم القائد ياسر عرفات في عيون الأدباء – المؤتمر العلمي الدولي – 2005- جامعة الأقصى – قصيدة بعنوان "يا ياسر عرفات" للدكتور شوقي الطمري، ص84.
3. أدونيس – الصوفية والسيريالية- بيروت، 1992.
4. أدونيس – محاولة في تعريف الشعر الحديث – مجلة شعر – بيروت 1959.
5. إعتدال عثمان – نحو قراءة نقدية إبداعية لأرض محمود درويش- مجلة فصول القاهرة، 1984.
6. جاكوبسون – رومان – قضايا الشعرية – ترجمة محمد الولي ومبارك حنون – الدار البيضاء:1988.
7. خالدة سعيد – حركية الإبداع – دراسات في الأدب العربي الحديث – بيروت 1979.
8. صلاح فضل، أساليب الشعرية المعاصرة -دار قباء للطباعة والنشر، 1998.
9. على الشرع- بنية القصيدة في شعر أدونيس دمشق 1987.
10. غنيمي هلال –دراسات ونماذج في مذاهب الشعر ونقده – دار نهضة مصر.
11. محمود أمين العالم وآخرون مأساة الإنسان المعاصر في شعر عبد الوهاب البياتي – القاهرة 1996.
12. محمود درويش- شيء عن الوطن- بيروت- 1971.
13. نورثروب فراي- تشريح النقد – ترجمة محي الدين صبحي – طرابلس – ليبيا، 1991.
14. وليد غائب صالح – عبد الوهاب البياتي من باب الشيخ إلى قرطبه ترجمة وكتابة – بيروت 1992.
15. Bousono, Carlos: Teoria de la expression poetica Madrid 1996.
16. Read, Herbert: Imagen E Idea trade Merico, 1975.
17. Lotman, Yuri M. Estructura del texto Artistico. Trad Madrid 1988.


* أستاذ مشارك بقسم اللغة العربية بجامعة الأقصى – غزة فلسطين

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق