الثلاثاء، 31 مارس 2020

البعد الإنساني في شعر كمال ناصر



البعد الإنساني في شعر كمال ناصر
د. محمد فؤاد ديب السلطان*

إن إنسانية الأدب لا يمكن أن تعني التحلل من أواصر الدين أو الوطن ومن وشائج الأرض والمجتمع، ويخطئ من يظن أنه ليس في وسع الأدب السمو إلى أفق الإنسانية إلا بالابتعاد عن القيم الدينية أو القومية، وربما كان العكس هو الصواب، أي أن كثيراً ما كان الأدب أصدق إنسانية إذا كان ينبع من عقيدة صافية سمحة، وقومية صادقة، بعيداً عن التعصب الأعمى، والنظرة الفوقية للآخرين، وهذا ما يمكن ملاحظته في شعر كمال ناصر الذي لقب بشاعر الوطنية لارتباطه بالقيم المسيحية الصحيحة والإسلامية السمحاء التي تربطه بوطنه وبأمته وبالإنسان ربطاً يحمل في طياته بذور الإنسانية الخالدة التي تمكنه من تحدي حدود التعصب الديني الأعمى، أو الإقليمي الضيق، وإن شعراً كهذا دائم الاتصال بالقيم البشرية لا شك أنه جدير بالدراسة.



The Human Element in Kamal Naser’s Poetry



The assumption that humanity in literature means that one should isolate himself from religion, nation and society in order to soar high may be not accurate one. I tend to argue that this is a wrong assumption due to that fact that literature can be highly humane as long as it is far away from blind fanaticism and superiority over the “other”. And this can be seen   in Kamal Naser’s poetry where Christian and Islamic values permeate his verses reflecting his humanity which transcends religion, class and race. Therefore, such poetry associated with the noble human values is worthy of examination and study.




* أستاذ الأدب والنقد الحديث المشارك بكلية الآداب بجامعة الأقصى.
المقدمة

كانت أحداث سنة 1973 في بيروت مفجعة ومحزنة لكل عربي. لقد بدأ الصهاينة يمدون أصابعهم عبر الحدود الفاصلة مع الدول العربية إلى قلب الوطن العربي. وامتدت يد الغدر هذه المرة، فاختارت القيادات الفلسطينية الشابة المفكرة في منظمة التحرير الفلسطينية فتم اغتيال البعض منها وكان كمال ناصر واحداً من هؤلاء الذين امتدت إليهم أصابع الصهيونية فقتلته غدراً وغيلة. [كمال ناصر– حياته وشعره – شهناز مصطفى ستيتة 2003]
كمال ناصر مناضل وشاعر فلسطيني ولد في غزة وتربى في بيرزيت، ودرس في القدس، أنهى دراسته في الجامعة الأمريكية في بيروت عام 1945، وعمل في التدريس مدة من الزمن، أصدر جريدة "البعث" اليومية في رام الله على أثر نكبة 1948، ثم أسس مجلة الجيل الجديد. خاض انتخابات 1956 عن حزب البعث العربي الاشتراكي والذي قد انتسب إليه عام 1952، ونجح نائباً عن قضاء رام الله.
أبعدته سلطات الاحتلال الإسرائيلي من فلسطين بعد حزيران / يونيو  1967 بسبب مواقفه النضالية.
انتخب عضواً في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية عام 1969، وتولى رئاسة دائرة الإعلام والتوجيه القومي، ومجلس مجلة فلسطين الثورة، وكان المتحدث الرسمي باسم منظمة التحرير الفلسطينية.
[مركز المعلومات الوطني الفلسطيني – فلسطينيات الاغتيالات الإسرائيلية للقيادات والكوادر الفلسطينية]
كان كمال ناصر كتاباً كبيراً تناولته فجأة ريح عاتية مجرمة فمزقت صفحاته ونثرتها في كل اتجاه، فخسرت الثورة رجلاً مفكراً صاحب كلمة شجاعة وهادئة وعاقلة وثورية، أحب الجميع وأحبه الجميع، وكان يلقب بـ "ضمير الثورة".
[حركة التحرير الوطني الفلسطيني – نيسان شهر الشهداء]
"وفي العاشر من نيسان 1924 كان مولده، وفي العاشر من نيسان 1973 كان يوماً لغفوته وصحوته". [ كمال ناصر – من ويكيبديا – الموسوعة الحرة]
انتقل كمال ناصر إلى الرفيق الأعلى وترك لذاكرتنا هذا السؤال: لماذا أُغتيل شاعرنا ؟! هل لمحو براءة النفس في عينيه فقتلوه؟ أم هل أزعجتهم مقالاته وكتاباته وأشعاره الوطنية؟! أما القيادات فتتغير وأما الأشخاص فيزولون، وتبقى القضية أكبر، ولابد أن يذوب الجزء في الكل، وأن يذوب الكل في الثورة، قبل أن تسقط الثورة الأجزاء التي لا تستحق الحياة، وأنت يا كمال ممن يستحق الحياة، وكنت تليق قائداً لثورة فقتلوك. [كمال ناصر في ربيع الذاكرة]
من أهم أعماله:
أ‌-         الشعرية:
1-        جراح تغني – دار الطليعة – بيروت – 1959م.
2-        أنشودة الحقد – ملحمة شعرية – بيرزيت – 1959م.
3-        أنشودة الثأر – بيروت – 1959م.
4-        أغنيات من باريس – بيروت – 1965م.
5-        أناشيد البعث – بيروت – 1967م.
6-        خيمة في وجه الأعاصير، أغنية النهاية.
7-        الآثار الشعرية الكاملة – أعدها وقدم لها الدكتور إحسان عباس – المؤسسة العربية للدراسات والنشر – بيروت – 1974م.

ب‌-       الآثار النثرية الكاملة – أعدها وقدم لها – ناجي علوش – المؤسسة العربية للدراسات والنشر – بيروت – 1974م.
ج- الأعمال المسرحية: التنين – مصرع المتنبي – الصح والخطأ – 1965م.
[ معجم الشعراء – كمال ناصر – أعماله]

كتب عنه كتابان، الأول هو للدكتور سهيل سليمان، والثاني للدكتورة شهناز مصطفى استيته، وهما كتابان اجتهد مؤلفاهما في إعطاء صورة شبه متكاملة عن كمال ناصر في جوانب من شخصيته المتعددة منذ شبابه الباكر حتى لحظة استشهاده.

والسؤال الذي يطرح نفسه: ما العلاقة بين الأدب الإنساني، والأدب الإسلامي؟! وما علاقة الاثنين بالأدب الملتزم؟ وأين شاعرنا كمال ناصر من ذلك كله؟!
مما لاشك فيه أن الأدب مرتبط بالإنسان منذ أقدم العصور، وفي مختلف بقاع الأرض والشعر الإنساني الذي نعني عند شاعرنا كمال ناصر هو جزء من الأدب الإسلامي بعامة "والذي عرفه الباحثون بأنه التجربة الشعورية الخاصة المفرغة في صورة جميلة موحية من القول الصادر عن التصور الإسلامي للكون والإنسان والحياة".
[مجلة المشكاة – المغرب – وجدة – العدد 17 يناير – 1993م]
إن الأدب لا يجوز أن يمثل خطاً متقطعاً في حياة الأديب الملتزم، ولا خطاً متعرجاً يكون فيه مرة ملتزماً ومرة غير ملتزم، لابد أن يمثل الأدب الملتزم نهجاً واضحاً، تحس خفقته، وتحس نبضه، وترى فيه الحياة طُهراً وإيماناً.

وهناك من يخالف هذا الرأي تماماً إذ يقول: "ليس هناك أدب ملتزم وأدب غير ملتزم فكل أدب ينبغي أن يتضمن رأياً وحكماً وموقفاً سواء كان رمزياً أو رومانطيقياً أو انطباعياً أو وحشياً أو مستقبلياً أو سيرليالياً أو واقعياً أو غير ذلك من مذاهب الأدب والفن ومدارسها، وسواء أراد الفنان أو الأديب ذلك أو لم يرد.

سواء كان واعياً أو غير واع. ولهذا يقوم الاختلاف بين هذه المدارس والمذاهب على اختلاف في النظرة إلى الواقع والحكم عليه والموقف منه، وليس معنى هذا بالطبع أن يكون الأدب والفن واقعياً لمجرد أن يجهر بالشقاء والحزن. وإنما المهم أولاً أن يكون فناناً أو أديباً خالقا، وأن تنبع أفكاره وأحكامه ومواقفه من صميم بنائه الفني والأبدي".
[الثقافة والثورة: عام 1970]، [د. محمد برادة – تحولات مفهوم الالتزام في الأدب العربي الحديث – دار الفكر – دمشق – ط1 – 2003]

غير أن الجميع لا يختلفون على أن يظل الأدب ظاهرة حية في تاريخ الإنسان كله منذ أقدم العصور حتى يومنا هذا ممتداً إلى مستقبل بعيد بعيد .. إنه نبعة من نبعات الحياة وخفقة من خفقات الإنسان، وتعبير عن وجوده وحياته ونشاطه وبيئته وكونه وواقعه، وعالمه، وعاطفته وشعوره وفكره وتصوره.

إنه يصف فكرة وقضية، ظنه وإيمانه، إنه يعرض ويحلل أحداثاً ووقائع، موتاً وحياة، حرباً وسلماً، سياسةً واجتماعاً، هزيمةً وانتصاراً... ولا يقف الأدب عند حدود العرض والوصف، ولكنه يحلل ويربط ويجمع ويستنتج ليكون وسيلة وقوة، وسبباً وأداة، ينضم إلى سائر الوسائل والقوى والأسباب والأدوات، لتتحصن به الأمة وتدفع به وتدافع وتجاهد وتنافح، ثم يصبح الأدب وعاء القوى يمزجها ويصهرها ويصوغها ويدفعها، إنه يرسم علاقات الإنسان وروابطه وصلاته وأواصره بمجتمعه وقضاياه لأنه أشرف الفنون في حياة الإنسان وأكثرها اتساعاً.
وهذا ما كان عليه شاعرنا كمال في أدبه لاسيما شعره الذي هو موضوع هذا البحث، فإذا أمعنت النظر فيه وجدت أنه أدباً إنسانياً ملتزماً بقضايا أمته ومجتمعه وفي مقدمتها قضية  فلسطين والذي نشتم في شعره عبق الجنة وروح الإسلام وهذا ما يتفق تماماً مع ما يقوله الأديب والشاعر المسلم الدكتور عدنان النحوي:" إن الأدب الذي لا يفوح منه عبق الجنة لا يمثل اليوم أدباً إسلامياً".
[الأدب الإسلامي – د. عدنان النحوي – دار النحوي للنشر والتوزيع– 1987]

القيم التراثية:
كان كمال ناصر مفتوناً بالتراث العربي، وكانت روحه الوثابة منسجمة مع الشعر الإنشادي التي تماهت مع أرواح شعراء العرب القدامى، كأبي تمام في حربياته، والمتنبي في سيفياته والبحتري في تجلياته، وعمر بن أبى ربيعة في غزلياته، وغيرهم. فقد كان مشروعه السياسي من معارض متحفز، إلى ممثل للشعب في مجلس النواب، إلى منافح عن قضايا حزبه خاصة والعروبة عامة، تتلاءم مع هذا التيار الكلاسيكي، والشعر الإنشادي المتميز برنين القافية، وفخامة الأسلوب. وعلى الرغم من إعجابه بأساتذته القدامى، أو المحدثين كشوقي وأبي ماضي والأخطل الصغير وغيرهم، إلا أنه كان واضح الرؤية في أنه قد يلتقي بهم في المطلب الشكلي فقط، ولكنه حاول أن يبذهم في الالتزام فنجح حين أخفقوا، فقد ظل محافظاً على الوضوح إيماناً منه بالرسالة الشعبية في نقل التأثير الشعري المباشر إلى نفوس الجماهير.
يقول كمال ناصر:
وإنـما هزنا في بعث أمتـنا
                     جرح على صدرها الدامي لثمناه
تراثنا العربي السمح هاج بنا
                     فـما  بكيــناه  لكـنا  بعثـناه!
[الآثار الشعرية، ص129]

إن شاعرنا أديب عالم ومناضل ثائر ومثقف واع برسالته، لا ينطلق من جهل ولا يسير في ظلمات، ولكنه يجمل الخطة والأسلوب والغاية والهدف.
إنه يرى أن للإنسان رسالة في هذه الحياة، فما بالنا إذا كان هذا الإنسان شاعراً وصاحب قضية، إنه يرى أنها مسؤولية الفرد المؤمن برسالته وقضيته العادلة التي أكدت عليها قوانين الأرض وشرائع السماء.
فهو يضمن قصيدته "انتفاضة الخيام" التي مطلعها:
بلادي تململ حلم الجهاد        على دربنا فانتشى وانتصر

 يضمنها بيت الشعر الشهير لأبى القاسم الشابي
    إذا الشعب يوماً أراد الحياة        فلابـد أن يستجـيب القدر
[كمال ناصر – الآثار الشعرية –  ط1- 1974]

ويخاطب كمال ناصر أمير الشعراء بقوله:
طيف من الأزل المسحور ناجانا      
                           يموج بالطيب ألحاناً وأوزانا
يا شاعر الخلد هذا يوم موعـدنا     
                           فانزل بنا، وتخطر بيننا الآنا
عفواً  أمير القـوافي كـل قافية             
                           تنوء دونك إلهـاماً وتبـيانا
[الآثار الشعرية – ص146]

وفي قصيدة طويلة من عيون الشعر الكلاسيكي، يخاطب فيها رسول الجمال، وهي بعنوان " إلى روح أبي ماضي"  يقول فيها:
يا رسول الجمال والحب والخير
                         تباركت  للجـمال  رسـولا
إلى أن يقول:
ومشـت في  ركـابه  تتملـى
                                     من حجاه،  وتستمد الأصولا
[ الآثار الشعرية  - ص142]

وها هو يستحضر قلعة الصمود عكا الجزار، التي على أسوارها، أحلام الغزاة:
قلـعة المجد لـم تزل تتـنادى       بالمروءات والندى والسـماح       
وحراب الجـزار مازال فيـها       أثر في النضال شاكي السلاح       
نفرت من محاجر السور تحكي       قصة المجد في العلى والنفاح
[الآثار الشعرية – ص175]

إن هذه الإنسانية في شعر كمال، وهذه الصياغات اللغوية، والتراكيب المنسابة انسياباً رفيعاً مريحاً للأذن والقلب، إن هذا كله يطرب السمع والقلب ويبقى منه فيه الشيء الكثير.
ولا شك أن شاعرنا تأثر بالأدب العربي القديم لاسيما في عصر النبوة الذي نماه الإسلام وغذاه رسول الله r وهو يضع لحسان بن ثابت t منبراً في المسجد يشدو بشعره وهو يقول:"اهجهم أو قال هاجهم وجبريل معك.
[رواه البخاري في كتاب الأدب – رقم 78 – ب ب 91]

ولاشك أن شاعرنا قد سمع الحسن البصري t وهو يعظ الناس والخلفاء فيأخذ عليهم ألبابهم من جميع أقطارها. ولا شك أنه تابع شعر الحماسة المتوارث منذ القديم. وتوهج في عصور الحروب الصليبية خطباً وأشعاراً لا تقل آثارها عن سيوف المحاربين ومنجنيقاتهم  "ألم  يقل صلاح الدين الأيوبي أنه نصر بقلم القاضي الفاضل، لا بسيوف المقاتلين في عصره؟".  [أثر الأدب في المعركة ... ]
 ورغم ذلك كله فيجب أن نسجل لشاعرنا انتصارات أحرزها على نفسه ومرحلته ومنها: إنه وهو الذي نشأ وترعرع أبان ازدهار الرومنطيقية الحالمة فوق زورق على محمود طه وكوخ محمود حسن إسماعيل، والمطلق المجهول لدى مدرسة أبولو، فقد استطاع أن يحتفظ بنزعته الكلاسيكية الممتزجة بشيء من مثالية المدرسة الرومنطيقية، وأن يحطم ذاته في سبيل الجماعة.
ومما ساعد على ذلك أن شاعرنا من طليعة الجيل الثاني لرواد الشعر الحديث الذي يسمى أحياناً شعر التفعيلة مما أضعف لديه من صلابة القصيدة الكلاسيكية من حيث الشكل، كما حطم قاعدة الشطرين المتساويين في البيت الواحد فقد ظهرت له قصائد على هذا النسق منذ أواسط الخمسينات، كان يجد راحة نفسه فيها أكثر من أي لون آخر.
وكأن الشاعر ما كان ليكتفي بالمناسبات التي تملي عليه قصائده، فذهب إلى استخلاص رؤيته للوطن والوجود. وأكاد أقول تخليد هذه الرؤية مستعيداً أداءه البلاغي في نص مفرط الطول، يصل حتى ألفي بيت من الشعر بعنوان ملحمة الحقد، وهي تنقسم بدورها إلى قصائد ذات عناوين فرعية مثل "صلاة الحقد"، و"اسكندرون" و"في رحاب الجزائر"، و"بور سعيد" و"في فلسطين".
ومن عيون الشعر الكلاسيكي، إضافة إلى الهائية، قصيدة العودة الكبرى، وهي قصيدة وطنية فلسطينية بكل معنى الكلمة لكننا نلمح قوة حضور التاريخ، فالشاعر يستلهم هجرة النبي محمد من مكة إلى المدينة، ويتوسم بالعودة النبوية، تفاؤلاً بعودة الفلسطيني إلى الوطن.

يقول كمال ناصر:
تهيأت إذ هاجرت للعودة الكبرى      وعدت فراح النصر ينتزع النصرا
[الآثار الشعرية – ص64]

إن هذا الاستهلال الرائع لهذه القصيدة، وغيرها من القصائد التي تأثر شاعرنا فيها بالتراث العربي والإسلامي، من حسن الديباجة والانسيابية والشاعرية الموحية تدلل أنَّ كمال ناصر كان يستخرج قصائده من تجاربه الحية المضمخة بأحاسيسه وأنفاسه ودمه ليستخرج نظرات صادقة في الحياة وفي الناس وفي طبائع الأعداء، فنأخذ طابع الحكمة وتذكرنا بشعرائنا الفحول لاسيما أبو الطيب وشوقي وأبو القاسم الشابي، وأبو ماضي وغيرهم.

القيم الدينية:
العاطفة الدينية من قديم، عميقة الأثر في آداب الأمم على اختلافها، وليس الأدب العربي بدعاً في ذلك. وهذه العاطفة الدينية هي التي أوحت لشاعرنا بذلك الفيض الزاخر من الشعر الديني، تمده بالقوة نزعة قومية حادة، وحب عميق للقومية العربية ولفلسطين، فقد كان كمال ناصر مسيحياً مؤمناً لذا اتخذ الشعر الديني عنده موقفاً إيجابياً من الأحداث التي كانت تمر بها أمته العربية وقضيته الفلسطينية فسخر هذه المشاعر الدينية الصادقة لخدمة أهدافه القومية فأخذ يلتمس المناسبات الدينية لخدمة أهدافه القومية ؛ فيتخذ منها مُثُلاً يذكر فيها بأمجاد أمته العربية الغابرة.

يقول من قصيدة بعنوان "محمد في الغار":
خطر الوحي ملهماً عبقريا      بين جنبيه فـاستفاق نبـيا
وسـرت رعشة النبوة فيه      تملأ الأرض والسماء دويا
هبطت سورة الحجر فتغني      يا لـيالي وكبري  يا ثريا
قيل للـغار أي نطق جميل      مـا عهدناه قبل ذاك شهيا
      فدوت آية الكـتاب حـناناً       قـد آتيناه  منزلاً عربـيا
[الآثار الشعرية – كمال ناصر– ص48]

فقد كان لثقافة كمال ناصر التراثية من جهة والأنكلوسكسونية من جهة أخرى أن حصل تزاوج بين البيئة الإسلامية والديانة المسيحية، مما أمد شعره بأواصر إشراقية روحية تجعل من الفداء فكرة مركزية في وعيه. وإذا أضفنا إلى الفكرة المجردة واقعاً وطنياً أليماً فإن الفداء يتنزل من النظرية إلى الميدان السياسي اليومي، فيكون الشاعر شاهداً على المرحلة
 إنها قصة شعب ضللوه
 ورموه في متاهات السنين
فتحدى وصمد
وتعرى واتحد
ومضى يشعل ما بين الخيام
ثورة العودة في دنيا الظلام

إن شاعرنا في أدق مشاعره الذاتية وفي مناجياته النفسية، إنما يعكس ما انطبع في نفسه من مأساة أمته ووطنه:
شوهت غربة المقاييس روحي     من تراني وما عساني أقول
غربتي في الوجود يعرفها الله      ويدري الشكاة دمعي البخيل
[الآثار الشعرية – كمال ناصر – ص6]

ثم يلجأ إلى الله يبثه شكواه، ويبرأ إليه من هذا الموت الذي كابد في سبيل إزاحته الهم والأسى، استمع إليه يتجه إلى ربه يسأله أن يهب لروحه السكون لما وصل إليه حال أمته العربية وقضيته الفلسطينية.
يقول في قصيدة بعنوان :" مناجاة":
إن  كنت إلـهي       فهب لروحي السكون
أما تراني حطاماً       أسير نحـو الجـنون
[الآثار الشعرية – ص104]

وفي قصيدة  بعنوان :" صلاة لم تتم" يقول:
أصلي إليك
وكنت نسيت الصلاة
وشككت فيك كثيراً
وناقشت فيك الإله
ولكنني خائف يا إلهي
أعود جباناً إليك
فلا تتركني وحيداً
أمارس خوفي وحيدا
لأني برغم ادعائي
أحب الحياة
[الآثار الشعرية – كمال ناصر – 103]

ورغم الحيرة التي تكشف بعض مناجياته الإلهية، فإنَّ توجهه إلى هذا اللون من الشعر يحمل في ثناياه حقيقة امرئ مؤمن، غير أنه لا يستطيع أن يفهم المسيحية إلا إذا انصهرت في  بوتقة العروبة، فإذا كان المسيح هو مثله الأعلى في الفداء؛ فإن محمداً r مثله الأعلى في خلق الوحدة العربية، وهو نموذج "العائد" المنتصر إلى وطنه مكة، وكمال يحلم أن يعيد التاريخ سيرته فيعود شعبه إلى وطنه منتصراً عودة محمد r ، وعلى هذا الأساس يحاور المسيح، ليتفقا في النهاية على أن الغرب المستبد المستعمر الذي شرد عرب فلسطين ونصر الباطل على الحق واستباح الدماء ليس مسيحياً
لست مني يا غرب ما فاحمل صليبك     راعفا بالدمـاء واتبع  ربيبك
لست مني فانـزع شـعار صلاتي     حسبي العمر قد حملت ذنوبك

إن هذا الفهم للمسيحية هو الذي جعل الشاعر يقول حين قصفت كنيسة القيامة في ليلة عيد الميلاد:
عيسى بن مريم قد عرفتك هادئاً     فاغضب ولو في ليلة الميلاد
واشهد مآسي الغرب كل جريمة    قامت هنا باسم المسيح الفادي
إن كنت منهم يا ابن مريم فلتعد     لربوعهم، لا كنت فينا الهادي

ولم يكن شاعرنا متعصباً لمسيحيته بقدر ما كان متعصباً لوطنيته وعروبته وقضيته، فها هو يسخر من مطران لبنان لموقف سياسي يخالف طموحات شاعرنا الوطنية.
يقول في قصيدة بعنوان " إلى الحاخام (م)":
صفِّق له قد مات وجدانه     واهتف له قد ضاع إيمانُه
إلى أن يقول:
لبـنان  لن تعجمه هفوة      نمقـها  بالشر مطرانه!!
[الآثار الشعرية – كمال ناصر – ص71]


وينتهز شاعرنا كل مناسبة دينية ليوظفها في خدمة القضية، فها هو يخاطب نبي المسلمين في عيد المسلمين في قصيدة بعنوان:"شاعر في العيد":
يا رسول الإسلام قد أقبل العيد    وللـعيد روعـة ومعانـي
قد حملت العبء الثقيل قديـما    ولجمت الضلال في الأوثان
أنت شيدت  للعروبـة صرحاً    قدسـياً  موطَّـدَ  الأركـان

وفي ذكرى الهجرة النبوية، يصور شاعرنا هذه المناسبة أدق تصوير في قصيدة طويلة بعنوان "العودة الكبرى" يقول في مطلعها:
تهيأت إذ هاجرت، للعودة الكبرى    وعدت  فراح  النصر ينتزع النصرا
إلى أن يقول:
وأضفى على الدنيا رؤاه، فكبرت    سـماء تضم الكون من  شوقها بشرا
طلائع بعث لم يزل ومضها هـنا    يشع ليهدي الناس من مهجة الصحرا!
[الآثار الشعرية – كمال ناصر – ص64]

ويثير شهر رمضان مشاعر شاعرنا تجاه اللاجئين الذين يقيمون في خيام لا تقيهم حر الصيف ولا برد الشتاء، وذلك في قصيدة بعنوان "صرخة الخيام" يقول فيها:
رمضان يا شهر الصيامْ       حزنت لفرقتك  الخيام!
حزن الجـياع البائسون       المفطرون الصائمون
[الآثار الشعرية – كمال ناصر – ص75]

وكانت هذه النفس المؤمنة المشتعلة بحب القيم النبيلة المتمسكة بعدالة قضيته الكبرى في بعث الأمة والوحدة وقضيته الخاصة فلسطين وما تعانيه المقدسات فيها من انتهاكات يندى لها الجبين.

لنستمع إليه يتحدث عن زهرة المدائن مدينة القدس التي احتضنت كل الأديان السماوية وذلك في قصيدة بعنوان "أذاكر بلدتنا القديمة" يقول:
فاحتضنتْ مسرى النبي في العلا     واحتضنت كنيسة الميلاد
[الآثار الشعرية – كمال ناصر – ص331]

ويأكل الأسى والغضب قلب شاعرنا لما يرى من ممارسات العدو الصهيوني والغرب تجاه أمته العربية، وتفريط حكام العرب في حقوقهم وماضيهم وقضاياهم المصيرية وهجر الفضائل وتنكب الطريق إلى العزة والمجد، فذلت العروبة واحتلت الأوطان، وانتكست الموازين وضاعت القيم.
وفي عيد ابن مريم يخاطب الغرب الصليبي في قصيدة بعنوان "لست مني يا غرب فاحمل صليبك" يقول:
يا رسول السلام في بورسعيد    شمخت روعة الفـدا  والجود
كـل طفل علـى ثراها وليد     في جبين التاريخ أسمى شهيد
                   أنف الذل في جحيم العبيد!
هـذه  زفرة السـلام الذبيح     من دمائي صّعدتها من روحي
أنت إن كنت سيدي ومسيحي    فانبذ  الغرب  وانتصر للجريح
                        أنت بكر العذاب عند اليهود!
 [الآثار الشعرية – كمال ناصر – ص108]

وفي قصيدة بعنوان "عيسى بن مريم" تفجرت بها قريحته، بعد أن اعتدت إسرائيل الغاشمة على القدس، وقصفت كنيسة القيامة في ليلة الميلاد. يقول في مطلعها:
يـا ليلة  الميلاد  هـذا  شاعر      يشكو الأذى فـي ليلة المـيلاد
أحلامه ذبلـت وعاجلها الردى      فذوت على غصن الصبا المياد
 [الآثار الشعرية – كمال ناصر – ص344]

وفي قصيدة بعنوان "إنا حملنا عن المصلوب رايته" يقول:
عيسى بـن مريم لم  يرهب منيته    ولا رمى بيهوذا عندما خانا
مضى إلى الموت يغنيه بمصرعه   على الصليب،  ففداه وفـدانا
 [الآثار الكاملة – كمال ناصر – ص151]

وثمة ملاحظة ضرورية، فالصليب عنده ليس مستمداً من ديانته، مع أنه كان مسيحياً مؤمناً. ولكنه كان رمزاً متأصلاً في ثقافته ووجدانه كعنوان للتضحية. وسنراه في أماكن كثيرة يوظف الرموز الإسلامية في شعره، لاسيما تجربة النبي محمد r مباشرة، وما جاء به القرآن الكريم من معاني وحقائق حول الرسل والأنبياء.
وها هو شاعرنا يقتبس المعاني القرآنية التي جاءت في سورة مريم والخاصة بميلاد المسيح، بحيث لا يمكن أن يتسرب الشك لقارئ هذه الأبيات أن قائلها غير مسلم (مسيحي) لتماهي هذه المعاني مع النص القرآني. يقول من قصيدة بعنوان "صرخة الميلاد" مطلعها:
يا رؤى الخير حاذري أن تغيبي      وأصمـدي لـلأذى بدنـيا الذنوب
إن للحـب دمعة مـا  توانـت       تتهادى بـالطهر فوق  الصـليب
سكبتها جـراح عيسى فسـالت       بضـياء الغـفران بين  القلـوب
أورقت بالحـنان  والنور حـقا       والمـروءات  والندى  والطـيب
وانتشت مـريم  البتول بفيـض       يتلظـى  بجسمـها   المشـبوب
واستقامـت على  الأمومة فيها       بين شـك  من  أمـرها ونحـيب
ويحـها زهرة الربـى  لم يقبل       شفتيـها  إلا  رحـيق  الطـيوب
همس  الله في  ترائبها  النشوى       فماجت  أعـطافـها  بـالـدبيب
وأقامـت بها  مكـاناً  قصـيا        عن فضول الملا  وعين الـرقيب
إيه يـا  مريم اهدأى  لا تخافي       والمسي الوحي  في المجئ القريب
هذه نفحة  السـماء  فصـوني       عهـدها لـذةً   وقـري  وطيبـي
وانحنت نخلة وأطـرق غصن       نابض بالجنى   الشهي الـرطيب!!
يا نبي السلام فـي  الهـدأة البـكر على  الشاطـئ   الوجيع  السليـب
شـرفـت ضـفـتاه بالـهم والـغم  وبـالإثـم   والدخـيل  الغـريب
قمم تطلع أخا المروءات واشهد       مصرع المجد فوق هـذي الدروب
أرهقتـها دسـائس الغرب لما       هزأت  بـالصلـيب  والمصـلوب
حسبـنا وصمة الزمـان رمتنا       في  فلسطيـننا  بمسـخ  ربيـب!!
[ الآثار الشعرية – كمال ناصر – 84]

يقول الأستاذ أحمد العناني:
" إن كل تأثر مخلص بمضمون القرآن يجعل كلام المتأثر أدباً إسلامياً ..."
ويقول إن من أبرز موجهاتنا في فرز الأديب الإسلامي والشاعر الإسلامي هي الترفع عن الاستجداء بالشعر".
[مقالات في الأدب الإسلامي – د. عمر الساريسي – دار الفرقان – عمان – الأردن – 1996 ط1 – ص137، 100]
إن شعر كمال ناصر أقرب ما يكون إلى الأدب الإسلامي لأنه يمتاح من الجذور الشرقية والذي ظل مستنداً إلى الأصالة والأخذ من التراث الإسلامي والمسيحي والإنساني. وهذا يتفق مع ما يقرره الناقد المرحوم سيد قطب: "ذلك أن الأدب كسائر الفنون تعبير موح عن قيم حية ينفعل بها ضمير الفنان، وهذه القيم تنبثق من تصور معين للحياة والارتباطات فيها بين الإنسان والكون وبين بعض الإنسان وبعض".
[مقالات في الأدب الإسلامي – د. عمر الساريسي – ص67]

ثم يتطرق شاعرنا إلى القضايا الإنسانية، التي ركزت عليها الأديان السماوية عامة، والدين الإسلامي خاصة، وذلك ما جاء في قصيدة بعنوان "اليتيم" مشيداً بنبينا الكريم الذي نشأ يتيماً واستطاع أن يخرج الأمة من الظلمات إلى النور يقول:
أحـمد   ذلك  اليتـيم  المفدى      رفع الحق فاستوى في نصابه
شعَّ فـي غابر  الزمـان  نبياً        بهر  الكائـنات وهجُ شهاب
حمل المشعل الذي مزق الجهل       إلى  ذروة الهدى وهضابـه
[الآثار الشعرية – كمال ناصر – ص50]

وها هو يدعو للتسامح والتعايش بين الأديان والبشر، على اختلاف اللون والعرق والدين والقومية وذلك في قصيدة بعنوان " صراع ... وانتصار" يقول:
إن معنى الوجود صفح تهادى     فـي خـبايا الإنجـيل والقرآن
أيـها الشاعر المضل رويـدا     والمس الخير في جراح الزمان
قلبك الطفل ضم في الحب دنيا     واحتـوى عالما  سخي الأغاني
وغضضت العـيون تسمو على الإثم وترمي عن  شهوة الأجـفان
أنت روح الإلـه  نشوته  الكـبرى فـردَّ   العـدوان  بالإحـسان
أيها الشاعر  الغريب الأمـاني    أين  حـبُّ  الإنسان   للإنسان؟
ونشدنا السلام  في كـل أرض    وضفـرنا  بصفحـنا  الإكلـيلا
وارتضينا بالحب والصفح حينا    وحفظـنا  القـرآن  والإنجـيلا
 [الآثار الشعرية – كمال ناصر – 168]

فليس للعقائديات أية قيمة عند شاعرنا إن لم تكن في خدمة قضايا الأمة، وليس للدين أي مفهوم إذا لم يؤخذ على ضوئها، وليس للعدالة الإلهية أي مجال آخر في الكون إذا لم تكن نصيراً لقضية فلسطين وأهلها.
والأفراد خيرون أو  أشرار بحسب مواقفهم من تلك القضية، فهي والعروبة والوحدة والعودة صورة لشيء واحد، متأله في نفس الشاعر، من أجله عاش وفي سبيله لقي مصرعه.

ويقول من قصيدة بعنوان" في الصحراء والخليج  العربي":
هذه جنتي العـريقة بالكبر     هـنا موطـني ومسقط  رأسي
فعلى كعبة الرسول حنيني     وصـلاتي تطوف فيها وهمسي

                                     *****
يا نبي الهـدى  وحامـي الديار      ورسـول   السـماء   لـلأحرار
هو ذا شعـبك  الأبـي أفاقـت      بين   عينيه    شـهوة  الانتـصار
بعـد أن مـزَّق الغريـب  أمـانيه   وأدمـى   أحـلامـه   بـالعـار
عـاودته علـى  العـذاب  رؤى  الـوحي  فهبـت  مجـنونة  بالـثار
يـا نبـي الصـراع أشـرقْ  على  الأرض وكوكبْ  بين الربى والقفار
قد مـلأت الوجود بالحق  لـما      أن  مـزجت  الصـراع  بالإيـثار
[الآثار الشعرية – كمال ناصر – 214]

إن شعر كمال يلتقي مع عناصر الفطرة السليمة السوية، والذي يلتقي مع الإيمان الذي غرسه الله سبحانه وتعالى في فطرة الإنسان، بل هو ثمرة من ثمار هذا الإيمان ونفحة من نفحاته، وخفقة من خفقاته، بعد أن توافرت فيه الموهبة.
إذ لا يستطيع الأدب أن يكون أدباً إنسانياً إلا إذا حافظ على خصائصه الإيمانية وارتباطه الفطري بالإنسان، وبدون ذلك يحمل الأدب صورة من صور الانحراف، أو شكلاً من أشكال النقص، مهما حاول أن يطرق قضايا إنسانية ومهما حاول أن يمسح دمعة أو يواسي جرحاً إن مثل هذه المحاولات تظل طلاء خفيفاً وزخرفاً كاذباً إذا لم تنبع من الإيمان.
والأدب الإسلامي باب من أبواب عمل الإنسان المؤمن، يطرق آفاق الحياة الدنيا طرقاً كريماً واعياً ونظيفاً، يطرق أبواب الكون ويدخل أغوار النفس، ويعيش مع الواقع بكل طاقاته الفكرية والعاطفية، وبكل قواه النفسية والمادية، ليقدم للبشرية أدباً إنسانياً بكل أبعاده وآفاقه وكل عمقه ومداه، لذلك كان الأدب الإسلامي هو الذي يمثل صفاء الأدب الإنساني بمنهجه وأهدافه بموضوعاته وأبوابه، بلفظه وصياغته، إنه أدب نظيف، من إنسان نظيف، إنه أدب صادق، من إنسان صادق لإنسان صادق".
[الأدب الإسلامي – عدنان النحوي – ط1- 1987]


القيم القومية والاجتماعية:
ورغم كثرة بروز القيم الدينية في شعر كمال، غير أنه لا يمكن فهمها إلا إذا انصهرت في بوتقة العروبة. لذا لم ينشغل شاعرنا في حياته العامة والخاصة بشيء أكثر من انشغاله بقضايا أمته العربية وفي مقدمتها مأساة وطنه فلسطين، فقد تضاءلت إلى جانبها كل ما عداها من آلام ذاتية وعذاب فردي كوفائه لأمه وحبه لها، أو لتكوين أسرة، أو الوصول إلى الجاه والسلطة، فقد كان صادقاً في هذا الحب والانتماء لا يجامل ولا يداجي، إنما هو صدق امرئ عاش بلا مظلة، فقد لونت القضية كل الوجود الفردي والجماعي لديه، فليس لأي شيء مهما سمى، أو كان محبباً إلى نفسه أية قيمة إن لم يكن في خدمة قضايا أمته العربية الكبرى، وليس للعقائديات أي مجال عنده؛ إذا لم تكن نصيراً لهذه القضايا ولأهلها. وقد كانت فلسطين في مقدمة اهتماماته فهي قدره الذي لا مفر منه.
 يقول في قصيدة بعنوان "خالدات":
يا فلسطين يا عويل جراحي     كيـف ينسى فيك الظلامَ النهارُ
قدري أنت  كيف أهرب منه     أين مـنه النجـاة، أين الفرارُ
[الآثار الشعرية – كمال ناصر – 155]

فقد كانت فلسطين حاضرة في وجدان شاعرنا وشعره على حد سواء منذ بداية حياته في الضفة الفلسطينية مروراً بانتقاله إلى الساحة السورية عبر البعث، وبعدما أصبح قائداً في منظمة التحرير الفلسطينية وحتى لحظة استشهاده مع رفيقيه في بيروت.
يقول في قصيدة بعنوان "فلسطين الأبية":
                         هذي  فلسطين الآبية في السـلاسل والقيود
يقضي بها الخصم العنيد وليس تنفعها الجهود
[الآثار الشعرية – كمال ناصر – ص29]

وتبقى مأساة فلسطين، التي هي مأساة الجيل هي مأساة كمال ناصر وقدره الذي لا يمكن له أن يتهرب منه، حتى أمام رجاء أمه له وخوفها عليه، وتلهفه شوقاً إلى صدرها الحنون وقلبها الأمومي الخافق بألوان العطف، فقد وجد ملاذه في صدر الأرض والوطن والثورة على الظلم.
فها هو يتحدث إليها في رفق ويرجوها أن تفهم موقفه، فهو ينتمي إلى وهج الكفاح لا إلى ظل الأمومة:
دموعك كفر     فلن ترجعيني
ولن تضعفيني
فحقي يريد الذهاب
إلى المعركة
[الآثار الشعرية – كمال ناصر – ص12]

ويقول من قصيدة بعنوان "سألمها في قبضتي وطنا":
أمـاه  يـا ظلي ومـرآتي        أماه يـا أغلـى صديـقاتي
أنا ثـائر روحي  تطاردني        ضاعت على دربي سماواتي
سألمها في قبضـتي  وطنا        فوجودهـا كـل احتياجـاتي
إنـي لأسمعـها  ترددنـي        تبكي بوجداني وفـي ذاتـي
مأسـاة هذا الجيل  مأساتي        وجراحـه الثكلـى جراحاتي
قدران في درب العلا اعتنقا       هيـهات ينفصـلان هيـهات
[الآثار الشعرية – كمال ناصر – ص53]

وها هو يخاطب السيد المسيح من قصيدة بعنوان "صرخة الميلاد" يصور فيها ما حل بوطنه فلسطين بعد أن تخلى القادة والحكام عن نصرة أهلها وحمايتها.
البلاد التي  عرفت صغيراً        ماجت اليوم بالونى والشحوب
نام عنها  حماتها واستباحوا       كعبة  النور في الملم العصيب
حسبنا وصمة الزمان رمتنا       في فلسطيننا، بمسـخ ربـيب!
ويتابع شاعرنا التغني بفلسطين ومدنها الحبيبة إلى قلبه مدينة مدينة، مستحضراً تاريخها المجيد وبرتقال يافا وذكريات المسيح، وجمال الكرمل وأسوار عكا وأطلال اللد والرملة، وذلك في قصيدة بعنوان "في فلسطين" يقول فيها:
يـا  بلادي، يا كعبة  الشـهداء      أصمـدي  للخـلود عبر الفـناء
يا بلاد النجوم والحلل الخضراء       يـا  لفتة  السـنا  في السـماء
تلك يـافا الشـهية الضرع تبدو      كبريـاء في  غـمرة  الأضواء
لـم  يزل  البـرتقال  يتـهادى       فوق أغصانـها بأسخى العطاء
                      ***************
تلك حيفا، فقف  بها يا جـناحي       لا تصفق في دربـها  المستباح
هو ذا الكرمل المطل على البحر      صـمود  لعاصـفات  الريـاح
إيه  عـكا عفو  الشباب فإنـي       طوع قلبي في غدوتي ورواحي
يشهد  الله  مـا نسـيت  ثراك        وبه كـان ملعـبي   ومراحـي
هذه   بلدة  المـسيح  عـليها          قبـلة  للشـفاء ونفـحة  خـلد
لـم يزل طـيفك الملح عويلاً         ملء عيني، وملء وجدي وسهدي
هذه الرمـلة الشـقية فاسـمع        كيف  تشكو  الأطلالُ  لـلأطلال
رفعتها في اللد أخيلة  الخطب         وفـيها للخطـب ألـفُ سـؤال
[الآثار الشعرية – كمال ناصر – 171]

ويتجه شاعرنا إلى وطنه يطلب إليه الصبر على الأحداث والأحزان وأن يعتصم بالإيمان والمقاومة وذلك من قصيدة بعنوان" إنا حملنا عن المصلوب رايته":
في القدس في غزة الثكلى معاصرنا     تدر  بالصبر والإيمان ألبـانا
إنـا حمـلنا  عن  المصلوب رايته     وقد نحتنا من الصلبان صلبانا
[الآثار الشعرية – كمال ناصر – 148]

وقد ظفرت قضية اللاجئين من شعر كمال بنصيب وافر، يزجيه إحساس عميق بمأساتهم التي تدمى القلوب، هذا ما صوره شاعرنا بإحساس واع ومشاعر صادقة.

يقول من قصيدة "الزعامات والشعب والطحين":
يا فلسطين والأذى فيك يسعى     أنا أخشى عليك من ثعبانه
عالم ساسه العبيد وأضحـت      أمة اللاجئين  من قطعانه
كم شريد على ملاعبه الثكلى      غريق في كبره وهوانـه
أشعث الشعر  مزقته الليالي      ودماه جفت على أردانـه
[الآثار الشعرية – كمال ناصر – ص63]

وتشكل الخيمة معادلاً موضوعياً  للجوء والتشرد والفقر عند شاعرنا حتى أنه يجعلها عنواناً لقصائده، يقول من قصيدة "خيمة":
مذعورةٌ، على رحاب  المكان
مصلوبةٌ، منسيةٌ في  الزمـان
يا خيمتي السوداء  ظلي هـنا
ذكرى على أشلاء حكم جبان!!
[الآثار الشعرية – كمال ناصر – 304]

ويستبدل اللاجئ الخيمة السوداء التي لا تقيه حر الصيف ولا برد الشتاء بجنته التي كان يعيش فيها في وطنه. يقول من قصيدة "عودة الثائر – نداء الخيام":
يا خيامي هذا أنا يا خيـامي     عدت من عالمي السحيق الدامي
عدت من جنتي أهدهد دمعي     ومعـي من هـناك أـلف سلامِ
[الآثار الشعرية – كمال ناصر – 180]

وتتحول عيون اللاجئة الفلسطينية عند شاعرنا إلى خيمتين ترويان مأساة اللاجئين. يقول من قصيدة "اللعنة" إلى لاجئة:
عيـناك خيمـتان ترويـان
أسطورة الضياع في الزمان
[الآثار الشعرية – كمال ناصر – 266]

ويحمِّل شاعرنا الغرب والقادة العرب مسؤولية ما حل باللاجئين من معاناة، يقول: من قصيدة "يا مجرمون":
يا مجرمون
نحن  العراة الشرفاء
نحن  الجياع الأغنياء
نحن  العبيد  الأقوياء
وأنتم المتآمرون، الظالمون ... يا مجرمون!
[الآثار الشعرية – كمال ناصر – 98]
يقول من قصيدة بعنوان "العودة الكبرى":
وقيل ... إذا مـرّ  الأنام  بدربـنا      هنا لاجئ ... يحيا على دربه فقـرا
جبان .. مريض .. جاهل، لا تثيره      مآسيه، بل تملي على روحه الصبرا
[الآثار الشعرية – كمال ناصر – 67]

ويستثير شهر رمضان مشاعر شاعرنا المسيحي، فيوظف هذه المناسبة للتذكير بمأساة هؤلاء اللاجئين، عسى أن يلتفت أصحاب القلوب الرحيمة لمعاناة هؤلاء، يقول من قصيدة "صرخة الخيام":

رمضان يا شهر الصيام    جزعت لفرقتك الخيام
رمضان يا شهر الصيام    عزت بدنياك الكـرام
[الآثار الشعرية – كمال ناصر – 75]
وإذا كانت ضمائر البشر لا تستجيب لصرخة الخيام في شهر الصيام، فإن خيام شاعرنا تنتفض وتستجيب.
يقول من قصيدة "انتفاضة الخيام":
لتحيا رؤاه على خاطري     خياما تهز ضمير البشر
خياما ستقذف باللاجئين        إلى موعد مقبل منتظر
[الآثار الشعرية – كمال ناصر – 81]
وهناك قصيدة "ألاجئ أنت"؟!
[الآثار الشعرية – كمال ناصر – 119]

وينتهز شاعرنا حلول عيد المسلمين ليذكر بمأساة اللاجئين، والتي تزيدها معاناة مثل هذه المناسبة، يقول من قصيدة "العيد في الخيام":
أقـبل العيد، فانهضـي يا أماني   
                    من   جحيم   الآلام  والحرمـان
واخطري في الخيام باكراً ففيها  
                    من لهيب الحرمان، أسمى المعان
واهتفي في  ضمير شعب  جريح
                    واستفيقي  في صـدر كـل جبان

ورغم عمق المأساة فإن شاعرنا لا يرى في الندب والعويل والدموع أي أمل في تغيير الواقع المرير، لذا يطلب من اللاجئة أن تكفكف دموعها، ولا تستسلم لليأس، بل عليها أن تتحلى بالصبر والعزيمة والتصميم على العودة، وعودة الحقوق مادام المرء يعتصم بالله وبحقه، وها هو يشد من أزرها، وفي طليعة المدافعين عن هذا الحق. يقول من قصيد "الدمعة الحاقدة":
أتبكين؟ ماذا؟
أمات أبوك؟ ومات أخوك
وجارت عليك جراح السنين
وأدرجتِ في موكب اللاجئين؟!!
أتبكين ..!
قومي نشد الإباء
على ملعب الكبرياء
فإني أبوكِ، وإني أخوكِ
كبرتُ على لوعةِ اللاجئين
وأخرست في جنابتي الأنين
[الآثار الشعرية – كمال ناصر – 236]

ولم تسلم الصهيونية والامبريالية الغربية من تنديد شاعرنا وتصوير أساليبهم الوحشية ومؤامراتهم الخبيثة لاغتصاب فلسطين والهيمنة على الأمة العربية ومقدراتها.
يقول:
يا عـبيد  العـبيد يا دخـلاء     ضجت الأرض منكم والسماء
أسألوا الانكليز كيف استباحوا     عـرض أبكارها، فهنَّ الفداء
يا أميركا، والعار ثوب غريب     لبسـته  ربوعـك  الشمطاء
[الآثار الشعرية – كمال ناصر – 184]

ويحمل شاعرنا الجامعة العربية مسؤولية ضياع فلسطين والتقاعس عن نصرتها إرضاءً للغرب وحفاظاً على عروشهم، يقول في قصيدة بعنوان "إلى أقطاب الجامعة العربية":
ماذا  فعلتم  بـالـبلاد     سوى القضاء على البلاد
يا  عصبة "الخير" التي    انتحرت على ثغر الجهاد
[الآثار الشعرية – كمال ناصر – 59]
ويتساءل الشاعر عن سبب نكبتنا الحقيقية، فتخبره النجوم والكواكب أنهم الحكام المتقاعسون عن نصرة قضاياهم، والوقوف مع شعوبهم ضد الغاصب الدخيل، يقول من قصيدة "جريمة الأمس":
جريمة العمر هذي، من  يفسـرها       ومن  يبين  لأحـفاد لـنا،  السـببا
فلاح لي كوكب بـالمجد  مؤتـلق       يشـع في جنـبات الأفـق ملتهـبا
فرحت أسألـه  عن سـر نكـبتنا      فاهتز في برجه المحزون واضطربا
وراح يرمي شواظاً من صـواعقه     يشـير فـيها إلى حكامـنا غضبا..!

وبعد أن يشهد شاهد من السماء على ضلوع الزعماء والحكام العرب في مآسي شعوبهم وتقاعسهم أمام قضاياهم المصيرية، يقوم شاعرنا بدوره بقذفهم بصواعق من الكلمات النارية كما فعلت الكواكب. [الآثار الشعرية – كمال ناصر – 92]
هذا ما صوره في قصيدة بعنوان "الزعامات والشعب والطحين"، يقول فيها:
هرمت نخوة الرجال عن المجد   ومـات الإباء في عنـفوانه
مـا أضاع الـبلاد إلا  طـغاةٌ   أصبحو  للغريب من  عبدانه
كلهم مجرم دخيل  على الشعب   يُرى راقصاً  لدى  أحـزانه
[الآثار الشعرية – كمال ناصر – 61]

وأخيراً يقرر شاعرنا أن يعرى زعامات بلاده أمام الملايين عندما يكتب تاريخ بلاده بوفاء وأمانه، أولئك الذي تخلوا عن الجهاد وقبلوا الذل والمهانة،  وأستأسدوا على شعوبهم فأذاقوهم الهوان، هذا ما جاء في قصيدة بعنوان "زعامات بلادي":
عندما أكتبُ تاريخ بلادي
بدموعي ومدادي
سوف أبقى صفحة للخزي، تنزو بالسواد
وتعري الغدر في دنيا الجهاد
وسأرويها جهاراً
للملايين الحيارى في بلادي
عند زعامات بلادي
[الآثار الشعرية – كمال ناصر – 279]

ويمضى شاعرنا مع الركب العربي يحدوه ويمهد له الطريق، ويستطلع له الآفاق حتى يرى بشائر الوحدة، ويلمح في الأفق بوادرها، فيحث أن تأخذ مكانها، وتضم قواها في وحدة عربية تحمي لواءها وتعيد لها كرامتها. فهذا هو السبيل لأمة تبني مجدها وتحمي حقها في عالم لا يفهم إلا لغة القوة، إذ لن تنجو أمتنا من هذا الطوفان الجامح إلا إذا اعتصمت بوحدتها ونظمت عقدها المنثور.
يقول من قصيدة بعنوان "جريمة الأمس":
جريـمة الأمس هـيا  اليوم  ندفعها      موحدين، فنرضي الأمس والحقبا
مـا ضرَّ لو نهضت بغداد في ولـه      وصافحت  أختها بيروت أو حلبا
وأجمعت  في ربـوع النيل  قافـلةً      من  الميامين تملي النصر والغلبا
مـا ضرَّ هذا وصافي العرق يجمعنا      مذ كـان  تاريخنا  أماً لـنا  وأبا
قد يحسن الحرب من يمشي لساحتها       ويحسن الكر من قد أحسن الهربا
[الآثار الشعرية – كمال ناصر – 94]

وظلت الوحدة العربية هاجس شاعرنا الذي لا يترك مناسبة تمر إلا ويدعو أمته للعمل من أجلها، ففي قصيدة بعنوان "ألاجئ أنت؟!"، يؤكد على أهميتها بغض النظر من يكون القائد. يقول:
عمان يا بلد الأحرار كيف أخي     والهول محتدم والليل معتكر
مـا همنا إلا بنينا صرح وحدتنا    أقـاده خـالدٌ أم قـاده عُمَرُ
[الآثار الشعرية – كمال ناصر – 120]

وإذ1 كان المسيح هو مثله الأعلى في الفداء، فإن محمداً صلى الله عليه وسلم مثله الأعلى في خلق الوحدة العربية، وهو نموذج القائد المنتصر إلى وطنه مكة، وشاعرنا يحلم أن يعيد التاريخ سيرته الأولى، فيعود شعبه إلى وطنه منتصراً عودة محمد صلى الله عليه وسلم إلى مكة.
يقول من قصيدة بعنوان "العودة الكبرى"، مطلعها:
تهيأت إذ هاجرت  للعودة الكبرى   وعدت فراح النصر  ينتزع النصرا
مشيت، فهبت مكة الجهل والأذى   وقد كبحت في صدرها الإثم والشرا
[الآثار الشعرية- كمال ناصر – 64]

وقد تحقق حلم شاعرنا وأمله ولو لبعض الوقت فها هو يستمع إلى المذياع يعلن نبأ الوحدة بين مصر وسوريا.. وكان بعيداً. فقال هذه الأبيات من قصيدة بعنوان "من وحي الوحدة" مطلعها:
أشهى المنى، ما نبضت بالكفاح     في وحدة كبرى  تلمُّ الجراحْ
فانتفضـي يـا أمتي واصدحي     اليوم يحلو في رباك الصداح
[الآثار الشعرية – كمال ناصر – 247]

ومن أجل هذا الأمل الذي يرقب شاعرنا فجره في لهفة وشوق يتقدم إلى أمته العربية يبارك نهضتها ويعلن عن فرحته كلما تقاربت وجهات النظر بين أبناء الأمة العربية، والتقى الإخوة في صعيد واحد، فكان ينتهز الاجتماعات والمؤتمرات ليوقع لحن العروبة ويغني أمجادها...
ويطرب شاعرنا لذلك ويرى فيها بشيراً صادقاً ببزوغ الفجر العربي من جديد وسيادة الأمة العربية، فها هو يتغنى بالأقطار العربية الشقيقة في فرحة تبدو واضحة في ألفاظه وقوافيه، يقول في قصيدة "في سماء العراق":
يا جناحي، هذي العراق الحبيبةْ
هـذه دارة  النـضال  الرحيبة
[الآثار الشعرية – كمال ناصر – 218]
ويقول من قصيدة بعنوان "في الصحراء والخليج العربي" :
صرخاتٌ من  الكويت تسامت    رددتها البحرين  في إكـبار
صمدت في عُمان تذكي لظاها    ثورة جهمة اللظـى بالأوار
[الآثار الشعرية – كمال ناصر – 210]

وقد عقد شاعرنا الأمل على حزب البعث في النهوض بهذه الأمة ولملمة جراحها وتوحيد صفوفها والتصدي لأعدائها فها هو يتغني بحزب البعث العربي الاشتراكي في الذكرى السابعة عشرة لميلاد الحزب بقصيدة مطلعها هو عنوانها:
وإنـما هـزنا  في بعـث أمتـنا       جرح على صدرها الدامي لثمناه
ويشهد الله،هذا الدرب، لا طمـعاً       ولا ادعـاءً ولا زهـواً مشيـناه
وذنبنا إن حكى التاريـخ قصـتنا       وأفصح الدهر يوماً  عن خـباياه
بأننا قـد بحثـنا  العمر عن بطل       فـلم  نـجده،   ولـكنا  خلـقناه
قالوا العراق فهبت  من جوانحنا!       قلوبـنا، وهتفـنا  لـيس  ننساه!
سيعلم الناس أن الدرب في وطني      وعر،  أليم،   طويـل  كـله  أه
[الآثار الشعرية – كمال ناصر – 128]

وفي الذكرى الثامنة عشر لميلاد حزب البعث العربي الاشتراكي، يؤكد شاعرنا أن دربنا طويل كله آهات وألم، لكن قدرنا أن ننهض بهذه الأمة لنبعث مجدها من جديد وكلنا أمل في تحقيق الوحدة العربية الكبرى.
يقول من قصيدة بعنوان "وسيبقى البعث الأصيل الأصيل":
دربـنا فـي العلـى   طـويل     كالأماني وكل نعمى تطول
قـدر  شـائك  نهضـنا  إلـيه     يتحـدى فيه  البديل البديل
ويهون العذاب في وحدة العرب   ويحلو الرضا  ويحلو القبول
[الآثار الشعرية – كمال ناصر – 134]

كما أشاد شاعرنا بالزعماء الأحرار الذين قارعوا المستعمر ودعوا إلى الوحدة وحملوا عبء القضية وهموم الأمة أمثال جمال عبد الناصر، يقول:
من قصيدة بعنوان "إلى جمال":
جمالُ..  ولى في فلـسطين  حقٌ      وحقِّ شبابك لـم أجـحد
جمال  نـريد  انـطلاقاً  جـديداً      ونصبو إلى عالـم أجود
وإن  ضل  بعض الرفاق  قلـيلاً      فـلا تضعفن ولا تحـقد
غدوت وحيداً على الدرب فاصمد    سيخلو لك المجد إن تصمد
[الآثار الشعرية – كمال ناصر – 111]

هذه الشخصيات هي التي تمثل البطولة الحقة، وتشبع رغبات وأحلام وآمال الجماهير التي تتوق للحرية والوحدة والعزة، وهذا هو البطل كما عرفه بعض الباحثين بأنه "استجابة لوجوب الحاجة إليه؛ حيث يحقق أهداف الأمة وحاجتها، ثم يمضي خطوة أوسع فيقود الجماعة إلى مرحلة أوسع، فيقود الجماعة إلى مرحلة جديدة لعلها تكون أكثر قوة وإيجابية".
 [أنور الجندي – نحو منهج إسلامي متكامل – دار الأنصار – القاهرة – ص329]
وشعب هكذا حاله لابد أن يبرز من داخله من يفتديه، وهكذا يتحد البطل الفادي بالشاعر الحادي، فالبعث رسالة متصلة بوحدة العرب وتحرير أفكارهم وأقطارهم لذا لم يقتصر شعر كمال ناصر على فلسطين، بل تغنى بالأقطار العربية في المغرب العربي ومشرقه، "بقصائد تؤكد أن هذه الأقطار، لا فلسطين وحدها هي عناوين تفصيلية لعنوان كبير، هو الوطن العربي الذي قدم قوافل الشهداء مثل عمر المختار، وعبد القادر الجزائري، ويوسف العظمة، وعبد القادر الحسيني، والمهدي بن بركة، وفؤاد نعواس، ورجاء أبي عماشة، وغيرهم".
[أحمد دحبور – موقع رؤية –   Roya. Com WWW.Arabic[

من هنا لم تك قضايا أمته العربية بعيدة عن هموم شاعرنا وآلامه التي تثقله بها قضيته فلسطين، فها هو يتساءل عن مصير اللواء السليب في الأسكندرونة، وإلى متى الانتظار لنعيده عربياً وذلك في قصيدة بعنوان "اسكندرون – اللواء السليب":
 يـا طيوف المـنى هناك أجيبي    وأخبريني  عن اللواء السليب
 عانقت في الأسى ربوع فلسطين    في الأسكندرون خفق القلوب
[الآثار الشعرية – كمال ناصر – 192]
ولم تغب بلد المليون شهيد عن وجدان شاعرنا رغم بعد المسافات، يقول في قصيدة بعنوان "في رحاب الجزائر":
يا رسول السلام هذي الجزائر    كل شبر بها على الضيم ثائر
كـل حي  على  جحيم لظاها     في الملم العصيب عبد القادر
[الآثار الشعرية – كمال ناصر – 196]

وها هو يشيد بأبطال الجزائر الذين قاوموا المحتل الفرنسي كعبد القادر الجزائري وأحمد بنبلا وأبي مدين وجميلة أبو حيرد وغيرهم ، لنستمع إليه في قصيدة بعنوان "إلى جميلة":
السجنُ والقيودُ يا جميلةْ     حكايـةٌ في دربـنا طويلة
لا تعبئي بالقيد في  يديك     فكل سجن في العلى خميلة
[الآثار الشعرية – كمال ناصر – 199]

وها هو يشارك أبناء بورسعيد فرحتهم بالنصر على العدوان الثلاثي، مشيداً بذلك الصمود والمقاومة التي دحرت  الغزاة يقول في قصيدة بعنوان "معركة بور سعيد":
شرفا بور سعيد ينهي على النصر    وعزاً في  يومـك  المـنشود
أنـت ألهـبت للبـطولة  طـيفاً     في خيال اليرموك وابن الوليد
[الآثار الشعرية – كمال ناصر – 209]
كان كمال ناصر رحمه الله مثال الشاعر الصادق المخلص الذي عاش كل دقيقة من دقائق القضية، وهو يرى أن الشعر الحق يجب أن يكون وقفاً عليها فشعره منها ينبع وإليها ينتمي، ويشب ويتراجع كلما شبت أو تراجعت.
لقد لونت القضية كل الوجود الفردي والجماعي لدي كمال فلم تعد القيم والمفهومات والمقولات والعلاقات إلا من خلالها.
وأن يكون تاريخ الرحيل مطابقاً لتاريخ المولد، هو أمر يتجاوز المصادفة، عندما يتعلق الأمر بشاعر مشوش بفكرة البعث، ويحمل قضية الاستشهاد في شعره ورؤياه، وهو الذي قال:
عشرين عاماً نضيء الليل من دمنا     في كـل نجـم لنا جرح أضأناه
فالبعـث وعـي وإيمان  وتضحية     وللبـعث هـم  كبير قد  حملناه
[الآثار الشعرية – كمال ناصر – 129]

وقد حمل كمال عبء القضية مختاراً بمزيج من الوعي والاندفاع، لا كرد فعل، بل بوحي من هاجس النبوءة والفداء.
على أن انشغال الشاعر بقضايا أمته وعمله الدؤوب في ساحات العمل الوطني لم يمنعه من التعبير عن ذلك الجانب الإنساني المحض، فقد أحب مرتين على الأقل، وكانت لديه تأملات وتطلعات في الوجود والحياة اليومية، وقد عبر عن ذلك كله، إذ أعطته المدة التي قضاها في باريس فرصة لإنتاج أجمل شعره الوجداني، ولا يعني هذا أنه لم يكتب هذا النوع من الشعر إلا هناك.
من هنا استطاع شاعرنا أن يكون له أكثر من هدف واضح مشرق يسعى إلى تحقيقه، أو يساهم في ذلك، وأن يسخر شعره وحياته في خدمة الإنسانية وقضاياها العادلة في أسمى صورها، دون أن يتعصب لدين أو يفرق بين جنس أو لون أو عقيدة، غير أن ينحاز إلى الحق، ويقف مع المظلومين واليتامى والفقراء والمغلوب على أمرهم.

وقد تصدى للمحتلين الغاصبين، ومن يقفون وراءهم بالمنظمات الدولية والعربية المنحازة لإسرائيل كما ندد بالحكام والقادة  الفاسدين، ودعا إلى الوحدة العربية ورص الصفوف في مواجهة أعداء الأمة العربية وأعداء الإنسانية جمعاء.
وبذلك كان شعره خيراً وبركة للإنسان المقهور وللشعوب التي تعاني الظلم والاحتلال، ليمتد شعره وفكره مع العصور والأجيال كلها امتداد حياة وعز ورقي، وهذا من طبيعة الأدب الإنساني وخصائصه. فقد قام بدور عظيم في معركة الحق مع الباطل، وما أحوجنا إلى مثله اليوم وشعوبنا تخوض أقسى معاركها وهي تمر بأحلك الظروف.

في مثل هذا الشعر تتجلى شاعرية كمال ناصر على أتمها، ففيها بلغ الشاعر مرحلة النضج في التجربة، وعمق النظرة وحرارة الانفعال الذاتي العميق تجاه المشكلات الإنسانية، الوطنية منها والاجتماعية، وخرج في قصائده خروجاً متفاوتاً من أسار الشكل التقليدي للقصيدة، وابتعد عن الصخب الموسيقي وعن اللهجة المباشرة إلى حد ما.
ذلك أن الموضوعات التي عالجها شعره  أقوى في النفوس من كل شعر، وهذا هو حال القضية الفلسطينية، والوحدة العربية، والقضايا الاجتماعية الأخرى، فإن تفرد بعضها واستعصاء حلها زمنياً، تحيلها إلى مشكلة إنسانية صعبة يستحيل الوقوف منها موقف المحايد، أو المتفرج، وهذا هو الأدب الملتزم الذي "هو نتيجة لموقف من العالم سواء كان هذا الموقف واعياً أو غير واع، والكاتب الملتزم يختلف عن الآخرين، ليس لأنه متورط في العالم، بل لأنه على وعي به، إن حرية الكاتب الخلاقة لا تنفصل عن إحساسه بالمسؤولية الاجتماعية، وإن اهتمام المرء بعصره هو مصدر كبير لإلهام الفن.
هذا يعني أن الأدب مهنة نضال مكتملة، وأنه من المستحيل الوقوف موقف المحايد من واقع يتحرك بسرعة".
[تحولات مفهوم الالتزام في الأدب العربي الحديث- د. محمد براده – ط1- 2003م]

لقد كان لكمال ناصر دور بارز في تجربة البعث وكان له دور بارز في الشعر الحديث، كما حقق نجاحاً يتجاوز الدور الريادي التاريخي.
فهو شاعر من قمة رأسه حتى أخمص قدميه وحسبه أنه حقق يوم العاشر من نيسان عام 1973 نبوءته، يوم خاطب أخت روحه فدوى طوقان مؤكداً:
إذا هتفت الشعب يوما روحي
أطلت له من وراء التراب

وقد ودعه محمود درويش بكلمات، وقد ربطته بشاعرنا صداقة عميقة ،فقال:"لقد مشى كمال ناصر على حبل الخطر.. انقطع الحبل ولا يزال كمال يمشي".

أهم نتائج البحث:
-          كات شعر كمال ناصر إنسانياً ملتزماً بقضايا الإنسان بوجه عام وقضايا أمته بوجه خاص تشتم منه عبق الإيمان.
-          كان أديباً وشاعراً خلاقاً تنبع أفكاره وأحكامه ومواقفه من قناعاته وإيمانه بعدالة قضيته وأهدافه.
-          كان مفتوناً بالتراث العربي والإسلامي رغم مسيحيته.
-          اقتبس كثيراً من التراث العربي والإسلامي لاسيما القرآن الكريم.
-          استطاع توظيف التراث والمناسبات الدينية والقومية والاجتماعية لخدمة قضايا أمته وأهدافه الإنسانية.
-          فالصليب في شعره ليس مستمداً من ديانته، بل كان رمزاً متأصلاً في ثقافته ووجدانه وعنواناً للتضحية.
-          كان المسيح عليه السلام مثله الأعلى في الفداء، في الوقت الذي كان النبي محمد صلى الله عليه وسلم مثله الأعلى في النضال وخلق الوحدة العربية.
-       كان مثالاً للشاعر المؤمن الصادق المخلص الذي عاش كل دقيقة في حياته من أجل قضايا أمته التي كانت في مقدمة اهتماماته، وقد لونت كل الوجود الفردي والجماعي في شعره، إذ كان يعتبرها قدره الذي لا مفر منه. وإن كان هذا لم يمنعه من التعبير عن الجوانب الإنسانية الأخرى كالشعر الوجداني.
-          كان رمزاً كبيراً في النضال، وأسهم في تأمين احتضان شعبي واسع لفكرة المقاومة ووحدة الفصائل.
-          كان نموذجاً راقياً للمثقف الفلسطيني في سلوكه الوطني الديمقراطي.
-          كان شاعراً واعياً ملتزماً يميل إلى الاستقلالية.
-          دعا إلى الوحدة العربية، وعمل بكل ما وسعه من أجلها.
-          أهاب وأشاد بحزب البعث وبالأبطال والقادة القوميين الذين تصدوا للعدو ودعوا إلى الوحدة، وحملوا عبء القضية وهموم الأمة.
-          ندد بالمنظمات الدولية والإقليمية المنحازة لأعداء العرب، كما عرّى الزعامات العربية المتقاعسة.
-          رغم عمق المأساة، لم يرَ شاعرنا في الندب والعويل والدموع أي أمل في تغيير الواقع، بل في النضال بكل أشكاله.
-          استطاع أن يجمع بين الكلاسيكية والرومانطيقية والواقعية، في الوقت نفسه الذي كان فيه ثائراً على الواقع.
-          شكلت الخيمة معادلاً موضوعياً للجوء والفقر والتشرد في شعره.
-          إن الموضوعات التي عالجها كمال في شعره أقوى في النفوس من كل شعر.
-          تجلت شاعرية كمال على أتمها؛إذ بلغ مرحلة النضج في التجربة وعمق النظرة وحرارة الانفعال.
-          وأخيراً كان له دور بارز في الشعر الحديث؛ إذ حقق نجاحاً يتجاوز الدور الريادي والتاريخي.


أهم مصادر ومراجع البحث:
أولاً: المصادر العامة
-          القرآن الكريم
-          الكتاب المقدس.
-          صحيح البخاري
-          المعجم الوسيط

ثانياً: المصادر والمرجع
1-        الآثار الشعرية الكاملة – كمال ناصر – المؤسسة العربية للدراسات والنشر- ط1- 1974م.
2-        أثر الأدب في المعركة.
3-        أحمد دحبور – موقع رؤية www. Arabic Roya.com
4-        الأدب الإسلامي – عدنان النحوي – دار النحوي للنشر والتوزيع –ط1- 1407هـ - 1987م- الرياض – السعودية.
5-        الثقافة والثورة – 1970م.
6-        تحولات مفهوم الالتزام في الأدب العربي الحديث – دار الفكر – دمشق – ط1- 2003م.
7-        كمال ناصر حياته وشعره – شهناز مصطفى استيتة – دار الفارابي – لبنان – 2003م.
8-        كمال ناصر في ربيع الذاكرة.
9-        كمال ناصر – من ويكيبديا – الموسوعة الحرة
10-      مجلة المشكاة – المغرب – وجدة – العدد 17 - يناير 1993م.
11-      مقالات في الأدب الإسلامي – د. عمر الساريسي- دار الفرقان – عمان – الأردن – 1996- ط1.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق