المفارقة
في شعر راشد حسين
خصصنا هذا البحث لدراسة
المفارقة في شعر راشد حسين من خلال محورين اثنين:
تناولنا في المحور الأول روافد
المفارقة عند الشاعر، وتقنيتها في شعره. وخصصنا المحور الثاني لدراسة أشكال
المفارقة في شعره من خلال مبحثين: تناولنا في المبحث الأول مفارقة النسق من خلال
دراسة مقاطع من قصائد متفرقة اتخذت فيها المفارقة أشكالاً عديدة. واشتمل المبحث
الثاني على القصيدة المفارقة، باعتمادها شكلاً يقوم عليه بناء القصيدة، ووعاءً يتسع
لها بكاملها، وذلك بدراسة ثلاث قصائد تمثل نماذج مختلفة من المفارقة، كتبت في
سنوات متباعدة زمنياً.
Abstract
Paradox
in the Poetry of Rushed Hussein
This
research is dedicated to studying paradox in the poetry of Rushed Hussein by
the agency of two pivots. The first pivot focuses on the sources of paradox and
their techniques in his poetry. The second one is concerned with the types of
paradox by tackling two subjects. The first subject is the paradox of harmony
that studies parts from different poems, which assumes several shapes. The
second subject includes the paradox poem which is adopted as a shape upon which
the poem is structured and a container that holds the poem as a whole by
studying three poems that represent
different patterns of paradox. These three poems are written at
chronologically distant times.
تمهيد:
تعريف المصطلح:
المفارقة هي فن قول شيء ما
دون قوله بشكل فعلي أو صريح، تكتسب سمة عمق الفن العظيم الذي يقول بنجاح وفعالية
أكثر مما يبدو أنه يقوله.
وهي ترتبط ارتباطاً وثيقاً
بالحذاقة والظرف والذكاء، كما أنها عملية ذهنية أقرب إلى العقل منها إلى الحواس،
وبالتالي فإنها تنتمي إلى الذهنية الواعية، وليس إلى الغنائية الحسية غير الواعية.
لقد أصبح الأدب المعاصر
أدباً يكتسي المفارقة، ويوظفها بشكل أكبر وأشمل، مما كان عليه في عصور سابقة. [D.J. Enright, p.13]
ويصرح هايدن وايت (Hayden White) في دراسة عام 1974 بعنوان "ما بعد التاريخ": "بأن
المفارقة في فهمها لحماقة الوضع الإنساني وسخفه تشجع على الإيمان بجنون الحضارة،
وتنزع إلى إثارة الازدراء لأولئك الذين يسعون إلى فهم أو إدراك طبيعة الحقيقة
الاجتماعية سواء في مجال العالم أو الفن". [Ibid, p.4]
يقتبس أحد الدارسين
المعاصرين تعريف "معجم أوكسفورد المختصر- Concise
Oxford Dictionary " للمفارقة؛ حيث يورد التعريف التالي:" المفارقة هي إما
أن يعبر المرء عن معناه بلغة توحي بما يناقض هذا المعنى أو يخالفه، ولاسيما بأن
يتظاهر المرء بتبني وجهة نظر الآخر؛ إذ يستخدم لهجة تدل على المدح، ولكن بقصد
السخرية أو التهكم؛ وإما هي حدوث حدث أو ظرف مرغوب فيه، ولكن في وقت غير مناسب
البته، كما لو كان في حدوثه في ذلك الوقت سخرية من فكرة ملاءمة الأشياء؛ وإما هي
استعمال اللغة بطريقة تحمل معنىً باطناً موجهاً لجمهور خاص مميز، ومعنىً آخراً
ظاهراً موجهاً للأشخاص المخاطبين أو المعنيين بالقول".
وتلخص ماريك فينلي (Marik Finley) مفهوم
مجموعة البلاغيين الجدد تعرف باسم "Group Ma" للمفارقة بقولها:" إن مجموعة البلاغيين
الجدد وهم مجموعة لهم شهرتهم، يتكئون بشكل خاص، في تعريف المفارقة، على التعارض
المتمثل في بنائها. وهؤلاء البلاغيون الجدد الذين يدعون بأنهم يتمسكون بالتعريف
البلاغي للمفارقة، وهو التعريف الوحيد المقبول لديهم، يحصرون مفهومهم في حقول بناء
الجملة، وفي دلالات ألفاظها، وعلى وجه الخصوص في مفهوم البعد écart الذي يرون أنه يمثل تعارضاً ثنائياً في المعني".
[Marik Finley: 1988, pp. 11-12]
وتخلص ماريك فينلي إلى
القول:" بأن كل البلاغيين تقريباً يمهدون في الواقع لواحدة أو أكثر من صيغ
التعريفات التالية للمفارقة، وإن كان هناك بعض الانحرافات المتوقعة عن هذه الصيغة:
أ-
الباث (Emitter) يقول شيئاً بينما هو يعني شيئاً آخر.
ب-
الباث يقول شيئاً، بينما شيء آخر
يفهمه المتلقي(Receiver) .
ج-
الباث
يقول شيئاً، بينما يقول في الوقت نفسه شيئاً آخر. [I bid, p.12]
أما في
أدبنا العربي، فلربما يكون أول استعمال لمصطلح المفارقة ما أورده عبد الرحمن
البرقوقي في شرحه لكتاب التلخيص عام 1904م. يقول البرقوقي:" قال
السكاكي:" وللمتشابهات من القرآن مدخل في هذا النوع، يعني التوجيه، باعتبار
وهو احتمالها للوجهين المختلفين، أي وتفارقه باعتبار آخر، وهو عدم استواء
الاحتمالين، لأن أحد المعنيين في المتشابهات قريب والآخر بعيد، لما ذكره السكاكي
نفسه من أن أكثر متشابهات القرآن من قبيل التورية والإيهام، وإذ يجوز أن يكون وجه
المفارقة هو أن المعنيين في المتشابهات لا يجب تضادهما. وبخلاف التوجيه فإنه يجب
فيه تضاد المعنيين".
[السكاكي – التلخيص في علوم
البلاغة – ضبط وشرح عبد الرحمن البرقوقي – دار الكاتب العربي – بيروت – مقدمة
الشارح]
أ- روافد المفارقة عند
الشاعر:
يمكن تلخيصها في رافدين:
أولاً: الرافد الفلسطيني
تحت الاحتلال:
إن
الظروف والملابسات التي خلقتها الأحداث التاريخية في فلسطين فرضت على الفلسطيني
واقعاً يجمع بين عناصر المأساة والملهاة، وشاعرنا واحد من هؤلاء الفلسطينيين الذين
عاشوا شطراً من حياتهم في ظل الاحتلال الصهيوني الذي طرده من عمله في التدريس
وأوقف جريدة الفجر التي عمل محرراً فيها 1962م. كما عمدت سلطات الاحتلال إلى طرده
من وطنه بعد أن شارك في تأسيس منظمة الأرض داخل فلسطين المحتلة، وترجم عدداً من
الكتب من العبرية إلى العربية وبالعكس، فحمل شاعرنا راية الشعر النضالي بعد النكبة
الأولى في الجزء الذي فرضت سلطات الاحتلال تعتيماً عليه، لذا فإن شاعرنا يرى أهمية
الكفاح لصنع غد أفضل لشعبه ووطنه بعد أن تصير الشفاه بنادق؛ إذ يقول:
بعد إحراق بلادي ورفاقي وشبابي
كيـف لا تصبح أشعاري بنـادق
وقد عاش الشاعر
في المنفى مشطوراً إلى نصفين: جذر في يافا وجسد في المنفى هذه الفكرة، فكرة النصف
الضائع فقصيدته " الله أصبح غائباً يا سيدي" هي التي رفعت راية الشعر
الفلسطيني في الأرض المحتلة عالية في سماء العالم العربي؛ إذ كانت رداً على صدور
القانون الصهيوني بشأن ما يسمى بأملاك الغائبين؛ حيث طردت سلطات الاحتلال الكثير
من العائلات الفلسطينية من أراضيها، وأصدرت قانوناً بالاستيلاء على هذه الأراضي
بحجة أنهم ليسوا في أرضهم، وهي التي طردتهم منها، وهو ما قام بدور فاعل في تنامي
إحساس الشاعر بوجود قائم على التناقض، الأمر الذي جعل من المفارقة وسيلة لكشف هذه
التناقضات وتعريتها.
[عز الدين المناصرة – ص8]
ثانياً: الرافد الفلسطيني
العربي:
برحيل
الشاعر عن فلسطين وتنقله بين عواصم العالم العربي والغربي زائراً أحياناً، ومقيماً
أحياناً أخرى، زاد من إحساسه بالمتناقضات، الأمر الذي طغى على نفس الشاعر دفعة
واحدة كلما كان يقف في بقعة خارج فلسطين في مطار أو في مدينة بجواز سفر إسرائيلي
لاسيما في العواصم العربية، بين أناس يقفون معه في معادلة الصراع مع اليهود،
ولكنهم يقدمون مجموعة كبيرة من المفارقات، يختلط فيها قاتله بمخلصه وشقيقه بعدوه
وحليفه بغريمه، وتختلط فيها الشفقة بالقسوة والحزن بالفرح ولا يكون أمام الشاعر
عندها إلا أن يخطف من الوقت دقائق يرسم فيها مثل هذه اللوحة، فهو في قصيدته
"يوميات دمشق" التي كتبها عن حرب تشرين أثناء إقامته في دمشق يقول:
أخجل يا حبيبتي في لحظات الحرب في
دمشق
فأجمل الرجـال سافروا إلى خنادق الشـمال
وخندقـي أنـا جريـدة وبندقيـتي مـقـال
[عز الدين المناصرة– ص14]
ويتشظى
مثل هذا الإحساس في شعر راشد حسين تارة على شكل مفارقة سقراطية، وتارة على شكل
مفارقة عبثية، وتارة ثالثة على شكل مفارقة خفية.
وتتشظى
هذه اللوحة، وتتناثر سلسلة من الخطوط والألوان في عدد كبير من قصائده، كما في
قصيدة "أمام الله" - ديوان مع الفجر – ص86. وفي قصيدة قبلك – ديوان أنا
الأرض لا تحرميني المطر- ص37. وفي قصيدة رسالتان – ديوان صواريخ، ص76. وفي قصيدة
"قالت" ديوان قصائد فلسطينية، ص148؛ حيث تلتحم خطوط السخرية بتجاهل
العارف تارة، وبالعبث تارة أخرى.
ولا يجد
الشاعر من سبيل، أمام هذا الواقع إلا أن يتحصن بحكمة العشاق من خلال مفارقة
فلسطينية.
ب- تقنية المفارقة في شعر
راشد حسين:
شاعرنا
لم تنقصه القدرة على اقتناص مواضع المفارقة في الحياة من حوله، على المستوى الفردي
وعلى المستوى الجمعي. كما لم تنقصه القدرة على توظيف هذه المفارقة، بأنماطها
المختلفة، ليبني فيها جمالية شعرية ساحرة ومؤثرة.
فبدلاً
من تتبع أمثلة المفارقة المختلفة في شعره. فضلنا تناولها من خلال مبحثين أساسيين.
تناولنا في المبحث الأول أمثلة مختلفة من المفارقة وردت في قصائد متفرقة للشاعر،
دون أن تفرض هذه المفارقات نغمتها أو بُنيِتَها على القصائد التي تضمنتها. بمعنى
أنها مفارقات يمكن أن تندرج تحت أنماط معروفة (الرومانسية، الدرامية، الفلسفية،
السقراطية ... )؛ لكنها اتخذت أنساقاً غير متماثلة في بنائها، ودون أن يفرض هذا
النسق نفسه على باقي القصيدة.
وفي
المبحث الثاني تناولنا عدداً من القصائد التي شكلت المفارقة فيها من ناحية البناء
والنغمة، الأساس الذي قامت عليه القصيدة. يدفعنا إلى هذا المسلك ما نعتقده من صواب
في الرأي الذي يقول "بأننا في الأدب بشكل عام، لا نجد فقط مجرد مفارقة
منمطة،أي مفارقة من نمط ما تنضوي تحته مفارقات مشابهة لكتّاب آخرين، بل نجد
مفارقات تتسم بسمات كتّابها أكثر مما تتسم بانضوائها تحت أنماط ثابتة فهناك مثلاً:
مفارقة أرسطو، ومفارقة موليير، وهناك مفارقة هاردي وغيرهم، وهكذا. [ خالد سليمان –
ط1 – 1999 – ص49]
ومثل هذا
الرأي يصدق تماماً على أدبنا، فمفارقة راشد حسين ذات سمات تختلف عن مفارقة محمود
درويش ، أو البياتي، أو أدونيس، أو أحمد مطر أو غيرهم.
المحور الثاني: أشكال
المفارقة في شعر راشد حسين:
تمثل هذه
الاقتباسات مقاطع من قصائد متفرقة كتبت في سنوات متباعدة، وكل منها يشكل جزءاً في
بناء لم يعتمد المفارقة كوسيلة بلاغية لإثراء شعرية النص الذي ترد فيه، ولإحداث
أبلغ الأثر في المتلقي بأقل وسيلة تعبيرية ممكنة، ودون أن يجعل من نصه بناءً
قائماً على المفارقة.
لقد جاءت
المفارقة في كثير من قصائد هذا القسم بغير كيفية وبأشكال عديدة منها:
1-
استعمال
صيغة الأمر أو الاستفهام. وذلك لدفع العقل أو
التفكير إلى المقارنة أو المشاكلة أو المقابلة، ومن أمثلة ذلك قوله:
وما أسكرتني كؤوس الخمور فهل
بـدموع الأسى أسكرُ؟
[مع الفجر – ص37]
جاء الاستفهام في هذه
المفارقة يحمل الطابع الاستفزازي للعدو الذي يظن أن ارتكاب المزيد من الجرائم بحق
الإنسان الفلسطيني سينسيه حقه في وطنه ويصرفه عن الصمود والمقاومة .
وقوله :
أفيقـي من رقـادك واستفيقي ولا
تبقـي لهذا الرق عهدا
ومن بالأنـبياء حملتْ تُجازى
حفيداتٌ لها ذلاًّ ووجـدا؟
دعي الغربان تنعبُ كيف شاءتْ وسيرى كالقضاءِ يمتن حقدا
دعي الظبيات في الفلوات
ترعى وكـوني لبوةً وبنوكِ أسدا
[مع
الفجر – ص120]
يخاطب الشاعر أمته العريقة أمة الأنبياء عيسى
عليه السلام وأمه مريم ومحمد صلى الله عليه وسلم أن تفيق من سباتها وتتصدى لأحفاد
القردة والخنازير ، ومن هنا تأتي المفارقة من تطاول الغربان والظباء على الأسود أو
تطاول شذاذ الآفاق الصهاينة على
العرب أصحاب الحضارة .
وقوله :
بدون
جواز سفر أتيتُ إليكم
وثرت
عليكم
فقوموا
اذبحوني
لعلي أحس
بأني أموت
بدون
جواز سفر
[أنا الأرض– ص32]
تجسد هذه المفارقة عمق
المأساة التي يعيشها الفلسطيني وهو حرمانه من بطاقة الهوية، او جواز السفر
المفقود، الذي يرسخ حقه في وطنه أمام عدوٍ يعمل بكل الوسائل للتنكر لهذا الحق ،
فأكثر ما يقلقه النمو السكاني للعرب في فلسطين وهو ما يمكن أن نسميه حرب الهوية .
وقوله :
ماذا أقول والرصاص فوق
جبهتي مطر؟
ماذا أقول للذين حـرروا
النجوم والقمر؟
ماذا أقول للبترول في الفـنادق الكبيرة؟
[أنا الأرض – ص 62]
تأتي المفارقة هنا من سخرية الشاعر من أبناء
جلدته الذين ينفقون أموال النفط في اللهو في الفنادق الفخمة في الوقت الذي لا يجد
أخوة لهم ما يسد رمقهم وهم في مواجهة عدوٍ متجبر.
وقوله :
أو كـلما انطلقت رصاصة قاتـل قـالوا غريرٌ كفُّه رعـناء
خلي الغريرَ إلى الطبيب
وهاتِ لي ذا حكمةٍ أفعالـه بيـضاء
قلْ لـي أتخضرُّ الجراحُ على يدٍ إن طوقتها خرقةٌ خضراء؟
قد أوشك الأمـوات أن يستيقظوا فمتى سينهض عندنا الأحياء
[قصائد فلسطينية – ص12]
يكشف الشاعر في هذه المفارقة زيف ادعاءات
الصهاينة بأن من يرتكب المجازر والمحارق هم مرضى نفسيون أو مجانين، وكأن أفعال
قادة العدو الوحشية في احتلال الأرض وقصف المدارس والمستشفيات والمساجد أفعال
مشروعة يقوم بها عقلاؤهم ، فإلى متى يبقى العرب صامتين ؟!.
وقوله:
قـالت: بسـاتيننا أزهـارُها نُسِفت
متـى تعود الأزاهير التـي نَسَفُوا؟
قلتُ انظري في سمانا لم تزل
سحب غداً تزخ ... إلى
أن يزهر الأسف
أتحمـلين بـطفـلٍ قلـب والـده عبدٌ؟ أعيـذكِ من عبدٍ لـه خلف!
[قصائد فلسطينية – ص149]
تتضح المفارقة الساخرة من هذه الاستفهامات
الاستنكارية من الواقع العربي الهزيل الذي يقوده جيل مهزوم من داخله .
وقوله:
مـا الـذي يفهـمه يـا
وطني عن حنين الحب أخماسُ الرجال؟
زحلـقوا اسـم الله عن
مسبحةٍ وتقـاهم كـل مـا فـيه سِـعال
[قصائد فلسطينية – ص167]
تصل المفارقة الساخرة في هذين البيتين إلى
ذروتها من وصف المتقاعسين عن النضال الوطني بأخماس الرجال الذين كل ما يشغلهم
التمسك بأمور أبعد ما تكون عن جوهر الدين .
وقوله:
كفى يـا طفلتي لا تسألـيني فمـاضينا
وحـاضرنا عـذاب
مشوا مشيَ الغراب لينقذونا وهل ينُجي من الهدم الغُـراب؟
إذا احـتاج
المطية مشتريها وحملها العـدولَ فهل تُـعاب؟
تنعم سيدي واشرب وعربد
فمن دمـنا طعامك والشـراب
[صواريخ – ص11]
تبدو المفارقة أكثر وضوحاً وتأثيراً من خلال
الأمر والاستفهام في الأبيات; حيث
التشبيه التمثيلي في البيت الثاني بين القادة الذين دعوناهم لينقذونا فأغرقونا ،
وبين القوم الذي اتخذ الغراب دليلاً له .
واكتملت المفارقة في الأمر الذي ورد في
البيت الأخير حيث جعل هؤلاء القادة يتغذون ويتنعمون بدماء شعوبهم .
وقوله:
يـا سبيَ بابل من هـداك إلى
هنا فسبيتنا؟
كيف اخترقتَ ضلوع آلاف
السنين وجئتنا؟
قل لي أعاد (نبوخذُ) أم أنت
وحدك زرتنا؟
[صواريخ – ص22]
تصل المفارقة هنا إلى ذروتها من خلال الجمع
بين الاستفهام والأمر اللذين مكنا شاعرنا من أن يماهي بين سبي اليهود وتشردهم إبان
السبي البابلي في القرن السادس قبل الميلاد وبين تشريد الفلسطينيين ونزوحهم عن
ديارهم من قبل الصهاينة بعد النكبات التي حلت بهم.
وقوله:
مرج بن عامر هل لديك سنابل؟ أم فيك من زرع الحروب قنابلُ؟
أم حينما عزَّ النباتُ صنعتَ
من لحـم الطفولـة غلةً تتمـايـل؟
يا مرج قل لي هل ترابك
سامعٌ؟ أم أنت عن صوت الملامة ذاهل؟
هـل بعد
أن كـنا نلـمُّ غمورنا وعلى الشفـاه
تبـسمٌ وتفـاؤل
نأتي نلملمُ عـن ثراك لحـومنا وكـأنـنا كـنا علـيك نُـقاتل؟
أبـناؤنا طـيات أرضـك أمهم هـل تقتل الأبـناءَ أمٌّ عـاقـل؟
أحسبت أقـلامَ الرصاص بنادقا
وبـأن صبـيتنا الصغار جحافل؟
أم أن أوراق الـدروس وثائق؟ أم في الحقائـب عدةٌ وحبائـل؟
[صواريخ – ص37]
إنها صورة تمثل المشهد
الفلسطيني الذي آلت إليه الأوضاع في الأرض المحتلة، بعد أن أحال العدو سهل مرج بن
عامر الخصيب - الذي كانت تملؤه السنابل – إلى أرض مزروعة قنابل جعلت لحوم أطفال
فلسطين تتطاير .
وتتضح المفارقة أكثر من
تكرار الاستفهام التعجبي في البيت الرابع ، أبعد أن كنا نجمع غمور السنابل أمسينا
نجمع أشلاء شهدائنا.
وتتبدى المفارقة أيضا من
الاستفهام الاستنكاري من قتل العدو الصهيوني أطفال المدارس متذرعاً بأنهم يحملون
في حقائبهم أسلحة وقنابل .
فأقلام الرصاص بنادق،
والأطفال الصغار جنود ، والدفاتر وثائق ، ألا يدعو كل ذلك إلى قمة السخرية من هذا
العدو الجبان.
2-
استعمال
اللغة المحكية أو المتدنية "للدلالة على تدنى أو
دونية الموضوع أو الشخص هدف السخرية".[المتوكل طه –1992 – ص108]
وكثير من
قصائد شاعرنا قد اعتمدت على اللغة المحكية، وعلى كثير من المصطلحات والتراكيب
المتداولة بين العامة خصوصاً قصائده (الخيمة الصفراء، إعلانات لسكان السماء، إلى ابن
عمي في الأردن، رسالة إلى المدينة، الجياد، من عصبية، في الأربعين، الجبهة العربية
وغيرها.
و(أخوي) يـا أبتاه ما قتلوه
بـل سئم الحـياة
[مع الفجر، ص16]
فاستخدام لفظة ( أخوي) بدلاً من أخي في
السياق الذي وردت فيه ، وما تحدثه من أثر لدى المتلقي تجسد المفارقة المرجوة من
تحميل الضحية جريرة القتل ونفيها عن مرتكبها الحقيقي .
وكذلك قوله:
فإلـى
متى (تتفرجين) بغير أجر أو كـراء؟
(عبئ
إناءك) يـا غبي من الدموع، من الدماء
[مع الفجر – ص20]
جاءت المفارقة من استخدام الفعل (تتفرجين)
المحكي بالعامية، والفعل (عبئ) بمعنى املأ وليس بمعناه المعجمي وهو هيئ أو جهز ،
وهو ما يوضحه السياق في قوله يا غبي من الدموع من الدماء.
وكأن الأمة العربية من البلاهة أن تنتظر
مصيرها الأسود وهي لا تحرك ساكناً .
وقوله:
وكان الشرق (حشاشاً)، مداخن كل دنياه
[قصائد فلسطينية – ص56]
تأتي المفارقة من الصورة التي رسمها الشاعر لأمته التي فقدت صوابها،
وكأنها مخدرة لا تدري بما هي فيه وما يدبر لها .
وقوله:
نستحلفـكم (باللـنش) بـكل حـبال
(اللنش)
[قصائد فلسطينية – ص103]
حملت هذه اللفظة العامية (
اللنش) المفارقة كما يحمل (اللنش) - وهو القارب الكبير المزود بمحركات آلية وكل
أسباب الراحة- المترفين من أغنياء العرب وقادتهم اللذين يناشدهم شاعرنا بما يحبون
، أو بما يتعلق بالذي يحبون ، ولم يناشدهم بالله لتصل المفارقة ذروتها ، فالشاعر
يعلم قبل أن يستحلفهم أنهم لن يستجيبوا لنداء الواجب ، لأن حالتهم ميئوس منها.
وقوله :
تُلقى رسـائلهم هـنالك في صـناديق الحديد؟
[صواريخ
– ص116]
جاءت المفارقة من استخدام هذه اللفظة
استخداماً يحقق المفارقة بتسليط الضوء على حياة هؤلاء الناس البسيطة التي تفتقر
إلى أبسط متطلبات الحياة ، أو الخدمات على خلاف ما يعتقده الكثيرون من الذين أنعم
الله عليهم، والتي منهم مسكينةُ شاعرنا .
3-
المقابلة: فغالباً ما تتم السخرية، وتتم المقابلة باستخدام أسلوب المقابلة،
وهو أن يقدم الصورة كما هي بتناقضاتها، ثم يأتي بالمثال فتتضح الصورة بمقابلتهما،
وذلك بما فيه من إثارة للعقل والعاطفة معاً. "والمقابلة كذلك توازي تراكيب
وألفاظ، وقد تكون هذه الألفاظ مترادفة أو متعاكسة في المعنى". [محمود غنايم –
ص73]
ومثال ذلك قوله:
أحـبُكِ أنـشـودةً ثـائـره
وأهـواكِ معبودة كافره
وأشعِلُ في الصدر نار
الجحيم لأحرق حـبك يـا كافره
فألـمحُهُ
سـاكـناً في الشعور بعيداً عن الحمم الـثائره
[مع الفجر – ص42]
تحققت المفارقة في هذه
الأبيات من استخدام الشاعر لهذه التراكيب والألفاظ المتعاكسة مثل معبودة وكافرة ،
وأهواك ، وأحرق حبك ، وساكناً في الشعور ، والحمم الثائرة ، ليؤكد شاعرنا ديمومة
حبه لها ، وعدم تأثر هذا الحب بكل هذه التناقضات.
وقوله :
ستمضين شرقا وأمضى مع الشمس
نحو الغروب
[مع الفجر – ص81]
تبدو المفارقة واضحة في
المقابلة بين مضي المحبوبة شرقاً ، ومضي الشاعر غرباً .
وقوله :
غنتْ ملائكةُ السمـاء
ومجدتْ ذكراك والشيطانُ جّنَّ وعربدا
يدُك التي بنت القصور
وشيدتْ فـاهدم إذا كفروا التي قد
شّيدا
[مع
الفجر – ص 102]
جاءت المفارقة من هذه
المقابلات بين غناء الملائكة وعربدة الشياطين، وبناء القصور وهدمها .
وقوله :
والشمس لم تجزع لمصرعه ولا غاب القمر
والأرض لا هي زلزلت أسفا
ولا نزل المطر
والدمـع راود مقلتي حينا وعـاد فما أنهمر
[مع الفجر – ص114]
تمت المفارقة في هذه
الأبيات باستخدام الألفاظ المتقابلة كالشمس والقمر ، ومراودة الدمع لمقلة الشاعر
وعدم نزوله ، للدلالة على عدم إكتراث العالم الحر لما يرتكب من جرائم بحق العرب
رغم فداحة الخطب.
وقوله :
يـا أبي
يُحكى بـأن الوزراء الحاكمين
خبزهـم أبيضُ كـالفلِّ كتلَّ الـياسمين
فلـماذا فعلـهم أسود من قـارٍ
سـخيـن
خـبزنا يـا أبتـي كـاللـيل أسـود
فلمَ
ابيضت ومـا اسودت فعالُ اللاجئين؟
[صواريخ – ص18]
تتبدى المفارقة من الصور
الكلية التي حققتها المقابلات الجميلة التي أوردها شاعرنا ، من خلال عقد المقارنة
بين خبز الحكام الأبيض وأفعالهم السوداء ، وبين خبز اللاجئين الأسود وأفعالهم
البيضاء .
4-
المفارقة
اللفظية: وقد جاءت في شعر راشد حسين على النحو التالي:
أ-
تقرير
حقائق مخالفة للوضع القائم أو معاكسة النتائج للمقدمات، أو تناول حقائق غير مألوفة وذلك لاكتشاف المفارقة، التي تحتاج إلى
منطق معين وذلك لأنها تأتي أولاً بالمقدمات لتخلص إلى النتائج التي لا تتطابق في
الغالب مع تلك المقدمات وهذا ما استعمله شاعرنا في بعض قصائده، ومثال ذلك قوله من
قصيدة بعنوان " أزهار من جهنم":
في
الخيام السود، في الأغلال، في ظل جهنمْ
سـجنوا شعبـي وأوصـوه بـألاَّ يتكلـم
هـددوه بسـياط الجند: بـالموت المحـتم
أو بـقطع اللقمـة النتنة، إنْ يـوما
تـألم
ومضوا عنه وقـالوا عش
سعيداً في جهنـم
تجسد المقابلة اللفظية في هذه الأبيات من مخالفة النتيجة وهي الطلب
من اللاجئ الفلسطيني أن يعيش سعيداً ، في ظل المقدمات السلبية ، وهو اللاجئ المشرد
الذي يعيش في أسوء الظروف الإنسانية تحت رحمة الجاني وسطوته.
ومن قصيدة بعنوان "رسالة ساخرة من الميدان":
من شاب جريح إلى والده يقول فيها:
المـدفع المـأفون يـا أبـتاه والفجـر العتيق
والأذرع
المـتناثرات هنا، هـنالك في الطريق
والليل والموتـى وأفـواه الخنادق والحـريق
يـهدينكم حـلو التـهاني
والتحـية والسـلام
بالأمس يـا
أبـتاه قبل الفجر أدركـتُ الحقيقة
وعرفتُ ما معنى الشجاعة والبطولات العريقه
أن نطلقَ القدر المكبل من بـنادقنا الـرشيقه
ونـنال أوسـمةً علـى تيتيم أطـفال الأنـام
(وأخوي) يـا أبـتاه مـا قتلوه بـل سئم الحياه
صلت عـليه الـدودة الحمـقاء لاعقة دمـاه
لا عـندنا شيـخ ولا خـوري تـباركـه
يداه
وأنا بحمد الله رغـم الجـرح أوشـك أن أنام
وإذا أتتـكم زوجتـي لا تخـبروها بـالحقيقة
قـولوا
لها إنـي بخـير تحت أغطية
رقيـقة
مازال لي رجـل ونصف يـد
وأغنية عتيـقه
سـأظل أنشدها وأكسب يـا أبي
ثمن الطـعام
[مع الفجر – ص16]
تكتمل المفارقة هنا في رسالة هذا الشاب الذي
فقد ساقه ويديه وأخاه ورفاقه في ساحة القتال ، وترك وحيداً من قيادته المهزومة ،
والتي يقول في نهايتها " قولي لها إني بخير " وهو ما لا يتفق مع
المقدمات ، ولا حتى مع النتائج .
يقول من قصيدة بعنوان "ضد":
ضد أن يجرح ثـوار بـلادي
سنبـلة
ضد أن يحمل طفل – أي طفل –
قنبلة
ضد أن تدرس أختي عضلات البندقية
ضد مـا شئتم .. ولـكن
مـا الذي
يصنعـه حتى نبـي أو نبية
حينـما تشـرب عينيـه
وعيـنها
خيول القتلة
ضد أن يصبح طفل بطلا في
العاشرة
ضد أن يثمر ألـغامـاً فـؤاد
الشجرة
ضد أن تصبح أغصان بساتيني
مشانق
ضد تحويل حياض الـورد في
أرضي
مشانق
ضد ما شئتم .. ولكن
بعد إحراق بلادي
ورفاقي
وشبابي
كـيف لا
تـصبـح أشـعاري بـنادق
[أنا الأرض– ص26]
لعل حيرة شاعرنا بين حبه
للحياة المسالمة التي لا عنف فيها ولا قتل للإنسان والمكان ، وبين ما يفرضه
الاحتلال بجرائمه على الشاعر وشعبه من أن يتخذ المقاومة سبيلاً مستخدماً كل
الوسائل المتاحة ، فقد بلغ السيل الزبى.
وقوله:
اسمه عدنان فلاح بلا أرض ولكن
لم يكن بالصمت .. بل في كل ما
فيه يقاتل
[أنا الأرض – ص41]
تتجلى المفارقة في وصفه
عدنان بأنه فلاح بلا أرض ، وهذا ما لا يستقيم مع المنطق الفلاحي على الأقل.
ب- المعاكسة اللفظية أو عكس الدلالة:
" وهي شكل من أشكال
القول يساق فيه معنى ما في حين يقصد منه معنى آخر، غالباً ما يكون مخالفاً للمعنى
السطحي الظاهر، ويجتمع فيها أكثر من عنصر، فهي تشتمل على عنصر يتعلق بالمغزى هو
مقصد القائل .. وتشتمل كذلك على عنصر لغوي بلاغي هو عملية عكس الدلالة".[سيزا
قاسم، المفارقة في القص العربي المعاصر - ص144]
ومن ذلك قوله:
ولم أرَ قبليَ من شاعرٍ يرى الوحي في حية ماكره
[مع الفجر – ص42]
تتجسد المفارقة في هذا البيت من المعنى الذي
يقصده الشاعر والمخالف للفظ الذي أورده ، وهو يجب ألا نثق بالأعداء ، ولو ارتدوا
مسوح الكهان ، أو حتى جبةً وقفطان.
وقوله:
لا تـعتذر!
من قـال إنك ظالمٌ؟!
لا تنفعلْ! من قال إنك معتد؟!
حـررتَ حتى السائمات غداة
أن
أعطيتَ (أبراهام) حـقل محمد
فالخيل في قمم الجـبال طـليقةٌ
قاس .. لتصبح ملك أمدن سِّيد؟
والأرض
تقرئك السلامَ وقمحها
شكرٌ تجـمع في بحيرة عسجد!
أو لم تحرر عنـقها من حارثٍ
والثور يستـشفي أمـام المذود
فالعدل أنت .. وكلُّ طاغٍ
يشتهي
لصباح عـدلك أن يكون بلا غد
[قصائد فلسطينية – ص130]
تأتي المفارقة اللفظية في
هذه الأبيات من تحميل المخاطب هنا- وهم الصهاينة المعتدون – مسؤولية احتلال فلسطين
، وما حل بأهلها ، على غير ما جاءت به الألفاظ التي أوردها شاعرنا
ج- معاكسة النمط البلاغي. أي عكس
النمط السائد في استخدام الصور البيانية، كوضع المشبه به بدل المشبه، وهو ما يدعو
لإمعان الفكر والنظر لاستخلاص المفارقة وهذا ما فعله شاعرنا في كثير من قصائده،
كقوله:
يافا التي رضعت
من أثدائها حليب البرتقال
تعطش؟!؟! وهي من
سقتْ أمواجُها المطر!
يافا التي حطمتْ الأيـام فوق هذه الرمـال
ذراعها شُلَّتْ؟
وظهرها انكسر؟!
[أنا الأرض – ص67]
جمال المفارقة هنا جاء
عكس النمط السائد باستخدام الصورة ليافا التي كانت قبل النكبة ترضع أبنائها حليب
البرتقال ، وتسقي أمواجُها المطرَ ، أصبحت عطشى بعد الاحتلال ، والسائد أن المطرَ
هو الذي يسقي يافا ، وليس العكس.
وقوله :
إفريقيا ملغومةٌ تشوي
الشتاء على الحطب
[قصائد فلسطينية – ص86]
جاءت المفارقة من عكس
الصورة مما وصلت إليه أفريقيا من حال فهي التي تُشوى بنيران المستعمر ، وتغرق
بفيضانات ظلمه وسيطرته على مقدراتها.
وقوله :
وعلى مصطبة البيت سحالي
بلحـى بيـضاء كـالجير النظيف
ألَّـفوا ألف حـديث نبـويٍّ
( عنعنوها ) وهي عن ذئب ضعيف
[قصائد فلسطينية – ص166]
تتجسد المفارقة هنا في غرابة استخدام الصورة
البيانية وهي الاستعارات التصريحية التي تصور من يتمسحون بالدين ، واللذين يأخذون
بالأحاديث الضعيفة ، ويرونها بالسحالي ذات اللحى البيضاء وبالذئاب .
وقوله :
وترى نجومَ الليل مثل
معسكرات الـلاجئين
وكهيئة الغوث الحزينة يخطر القمر الحزين
[صواريخ – ص7]
تأتي المفارقة هنا من التشبيه المقلوب ، وهو
تشبيه نجوم الليل بمعسكرات اللاجئين ، وتشبيه مجيء القمر الحزين كل شهر ، بما تجود
به وكالة الغوث من معونات للاجئين كل شهر .
5-
السخرية
من صاحب الفعل أو من الفعل أو من الواقع؛ عن
طريق الضحك منه، أو التهكم عليه، أو التقليل من شأنه، أو إبراز المفارقة الكامنة
فيه، من خلال المفارقة اللفظية، أو توجيه النصيحة لأن يستمر في عمله قناعةً بأنه
لن يتراجع، أو لأنه حالة ميئوس منها أو من خلال المبالغة والتهويل والتضخيم.
ومثال ذلك:
وأخـوك أحمد لم يـزل مـا
بين آلاف الجموع
يمشي يفتش عن رغيف الخبز في سوق الدموع
وأبوك، لا تحزن أبوك مضى
وغاب ولا رجوع
[مع الفجر – ص23]
تتبدى المفارقة هنا من
سخرية الشاعر من الواقع الذي آل إليه الإنسان الفلسطيني إبان النكبة ، في الوقت
الذي يقول فيه : " لا تحزن أبوك مضى وغاب ولا رجوع" .
وقوله :
يافا –
لمن يجهلها – كانت مدينة مهنتها
تصدير البرتقال
وذات يوم هدمت ... وحـولوا مهنتها
تصدير لاجئين
[أنا الأرض – ص67]
تأتي المفارقة في هذين
البيتين من التهكم مما آلت إليه مدينة يافا بعد النكبة ، فبعد أن كانت قد اشتهرت
بتصدير البرتقال أمست تصدر اللاجئين .
وقوله:
ومـا ثـاروا
على التقسيم لكن على أشلائنا اختلف الذئاب
إذا مستعمرٌ طلـب المطايـا
أناخوا فالظهور له رحاب
وإن عزَّ الركـابُ أطـل
تاجٌ يقول: أنا لسيدي الركـاب
[صواريخ – ص9]
تتضح المفارقة من التهكم والسخرية من مواقف
الزعماء العرب تجاه قضايا أمتهم ، وتواطؤهم مع المستعمر ، وتسابقهم في إرضائه .
6-
المفارقة
من خلال المعارضة والتضمين؛ لأن "المعارضة لا
تستهدف محاكاة الواقع بل محاكاة الأدب نفسه متحققاً من نص آخر، فالشيء المحاكى ليس
هو الطبيعة الخارجية، بل هو شيء لغوي مصنع من قبل ومتاح للناس، ويؤدي بنا ذلك إلى
أن المعارضة تبتعد نوعاً ما عن مفهوم الأدب الواقعي، وتأتي بوصفها ردّ فعل لتوهم
إمكانية محاكاة الواقع أو إمكانية تحقق هذه المحاكاة. فالأدب يحاكي الأدب، بمعنى
أن اللغة تحاكي لغة ولا تحاكي أشياء قائمة خارجها.
[سيزا قاسم- ص144]
وقد
استند شاعرنا في قصائد له على محاكاة نصوص أدبية منجزة، كقصيدته "هن"
التي حاكى فيها قصيدة إبراهيم طوقان الشهيرة "بيض الحمائم" وعارض في
قصيدته "بلادي" قصيدة بعنوان "بلادي" لنزار قباني، هذا إلى
جانب تضمينه عدداً من قصائده مقاطع لفحول الشعر العربي القديم.
أ-
المعارضة: ومن أمثلة المعارضة لقصائد كاملة، قصيدته التي بعنوان
"هن" التي عارض فيها قصيدة إبراهيم طوقان "بيض الحمائم"، التي
مطلعها:
بيض الحمائـم
حسبهنه أني أردد سجعـهّنه
رمز السلامة والوداعة منذ بدء الخلق هُنـّه
[المتوكل طه- أ– ط1 – 1992 – ص228]
يقول راشد حسين:
حي الحـرائر حيهنه واغفر لهن ذنوبـهنه
يا ربُّ إنْ لم نهوهنه فلمن وفيمَ خلقتـهنه
[مع الفجر – ص32]
والقصيدة تزيد على ثلاثين بيتاً.
وكذلك قصيدته
"بلادي" التي عارض بها قصيدة "بلادي" لنزار قباني وذلك بعد مضي
أكثر من عشر سنوات على كتابة نزار لها، والتي مطلعها:
من لثغة الشحرور من
بحة نايٍ .. محزنة
من رجعة المـوال من
تنهـدات المئذنـة
[قصائد فلسطينية – ص43]
يقول راشد حسين:
من غضبة الفلاح .. من
أنة طفلٍ محزنة
ومن صخور بدمـاء لاجـئ .. ملونـه
من قريةٍ .. مات بها .. حتى
لهاثُ المدخنة
ومسـجد مهـدم تبكـي عـليه المئذنـة
[قصائد فلسطينية – ص 40]
والقصيدة تقع في ثلاثة وعشرين بيتاً.
جاءت المفارقات من محاكاة شاعرنا في هاتين القصيدتين ، نصين مصنعين
من قبل لشاعرين كبيرين هما : إبراهيم طوقان ، ونزار قباني ، أوقظا فينا الواقع
الدامي ، والذكريات الأليمة التي تركتها ممارسات الاحتلال بحق العرب ومقدساتهم .
ب- التضمين:
لعل شاعرنا يرى أن من حقه أن يرث كل تاريخ
الإبداع والثقافة التي جرى على الأرض العربية العربية ومن ضمنها هذه العبارات التي
وردت في قصائد فحول الشعراء العرب ، ليكسبها
بعداً جديداً مقاوماً ، كما يرى محمود درويش [*]
يقول:
يبكي عليَّ بحسرةٍ فأفرّ خوف سماعه
[مع الفجر – ص92]
وهو ما يذكرنا بقول أبي فراس الحمداني مخاطباً ابنته:
نوحـي علـي بحسرة من
خلف سترك والحجاب
[ديوان أبي فراس الحمداني –1900- ص77]
بدت المفارقة هنا من هو الموقف في النصين مع اختلاف الزمان والمكان
والحدث .
وقوله:
وإذا رأيت الموت يصقل نابه فامدد يمينك واستخف بمن عدا
[مع الفجر – ص102]
يذكرنا ببيت المتنبي الشهير:
إذا رأيت
نيوب الليث بارزة فـلا تظن أن الـليث
يبتـسم
[ديوان المتنبي
- 1968 – ص261]
تتبدى المفارقة هنا من
تضمين شاعرنا عبارة المتنبي الشهيرة " وإذا رأيت نيوب الليث " والتي تشي
بأخذ الحيطة والحذر قبل الإقدام على الأمر ، وهي الحكمة المستفادة من النصين مع
اختلاف المواقف والزمان والمكان والأشخاص ، إلا أن شاعرنا لا يرى شيئاً أشد خطورة
من الموت ، فمن الموت تولد الحياة والحرية .
وقوله:
وتهامس الثوار في غَلَس
الدجى: اقتل فمثلك قـادر لا يشفقُ!
[مع الفجر – ص 124]
وهو ما يذكرنا ببيت البحتري الشهير في وصف الربيع
وقد نبه النيروز في غلس
الدجى أوائل ورد كن بالأمس نوما
[ديوان البحتري – مج4- ص2090]
وتتحقق المفارقة هنا من
تضمين شاعرنا قول البحتري " في غلس الدجى" مع اختلاف الجو النفسي في كل منهما ، فشاعرنا يتحدث عن قتل الثوار
للأعداء بينما نص البحتري يتحدث عن تفتق الأزهار بقدوم الربيع ، وكأن مقدمات عبارة
البحتري خالفت تماما نتائج راشد حسين .
وقوله:
إذا انتسب الملوك إلى
قصور فليس سوى الخيامُ لنا انتساب
[صواريخ – ص8]
وهو ما يذكرنا ببيت أحمد شوقي الشهير:
أبا الزهراء قد جاوزت قدري
بمدحك بيد أن لـي انتسابـا
[الشوقيات – ج1 – ص66]
تتحقق المفارقة هنا من
أمرين الأول داخل البيت نفسه ; حيث
المفارقة في انتساب الملوك إلى القصور ، وانتساب اللاجئ إلى الخيام .
والأمر الثاني من الفرق
بين الانتساب لعامة البشر وحتى لو كانوا ملوكاً ، وبين الانتساب للنبي محمد صلى
الله عليه وسلم .
7- وثمة مفارقة بيِّنة في عناوين قصائد شاعرنا وخصوصاً قصائده
الساخرة، مما يعمق السخرية في تلك القصائد ويؤكدها. ومن تلك العناوين:
"أزهار من
جهنم" [مع
الفجر – ص11]
"رسالة ساخرة من
الميدان" [مع الفجر –
ص15]
"قاضي
الهوى" [مع الفجر – ص62]
"الغلة الحمراء" [صواريخ – ص 34]
"لغة
الأفيون" [صواريخ
– ص40]
"الله لاجئ!!" [صواريخ
– ص 128]
وتمثل
هذه المفارقات غير المتماثلة مقاطع من قصائد متفرقة، كتبت في سنوات متباعدة وكل
منها شكل جزءاً في بناء لم يعتمد المفارقة أساساً يقوم عليها. بمعنى أن الشاعر هنا
يستعين بالمفارقة كوسيلة بلاغية لإثراء شعرية النص، الذي ترد فيه لإحداث أبلغ
الأثر في المتلقي بأقل وسيلة تعبيرية ممكنة، دون أن يجعل من نصه بناءً قائماً على
المفارقة.
المبحث الثاني: القصيدة المفارقة:
وقد ظهر
وعي الشاعر باعتماد المفارقة شكلاً في القصيدة يقوم عليه بناء القصيدة ووعاءً يتسع
لها بكاملها.
وسوف
نناقش هذا المحور من خلال ثلاث قصائد، تمثل نماذج مختلفة من المفارقة، ومراحل
زمنية متباعدة في مسيرته الشعرية، والقصائد هي:
1- الكفن. [وهي من ديوان مع الفجر، 1957م]
2- الله لاجئ. وهي من ديوان [صواريخ ، 1967م]
3- الحب والجيتو. وهي من ديوان [أنا الأرض لا تحرميني المطر –
ص1976م]
1- قصيدة الكفن ومفارقة القدر:
تتخذ هذه
القصيدة (الكفن) عنواناً لها، وتشكلت القصيدة من حركتين رئيستين: في الأولى تبرز
صورة الأب الذي ذهب إلى السوق يشتري ثوباً لطفله الصغير الذي فقد أمه ليقيه برد
الشتاء القارص، عله يدخل الفرحة على قلبه الصغير، وبعد أخذ ورد، وفصال وجدال مع
بائع الصوف يتمكن من شراءه بكل ما يملك من النقود، ثم ينقلب عائداً فرحاً إلى كوخه
الصغير:
أريدُ قميصاً لطفلي الصغير يكافح ريحَ الشتاء الوبـيله
ولـيس بجيبي سـوى ليرةٍ
كـكنز سليمان تبدو جليـله
فـيا
بائع الصوف بعني بها قميصاً
جميلاً لطفلي الصغير
رأيت بـعينيه شوقـاً إلـيه تمـازجه
لـهفةُ المسـتجير
ونـاولنـي بـائع الثـياب قميـصاً فـناولتُـهُ ليـرتي
فأودعتهُ طيّ جيب الرداء
وطرت سريـعاً إلى قريتـي
وجئت إلى كوخنا الأحدب تـرافقني
خـطوات المغيب
وسط جو
الفرح الذي يملأ نفسه، يقابله طفله بالبكاء والنحيب على أخته الصغيرة التي أقعدها
المرض وتدهورت حالتها لانعدام الدواء، فلم يكن بوسع الأب إلاَّ أن يضمها بين
ذراعيه ويقدم لها الدموع عوضاً عن الدواء، وما هي إلا سويعات حتى تصعد روح الصغيرة
إلى خالقها فيغرق الأب الحزين في الذكريات المريرة، وهكذا تتشكل الحركة الثانية في
القصيدة: إذ يتبدل الأمل إلى يأس وجو الفرح والبهجة إلى حزن ودموع:
فـألفيت معلولـةً طفلتـي وطفلـي يـقابـلني بـالنحيـب
وملت علـى
الطفلة البائسة وفي العين دمعٌ وفي القلب ثورة
وطـوقتها بذراعـي القوي وكـل دوائـي دمـوعٌ ونظره!
وقبل
المساء تموت الصغيرة فـأغرق في
ذكريـاتي المريرة
وبعد قـليل يموت فـؤادي سـوى نـار حقد تثير شعـوره
وتتفاقم
المأساة في هذه القصيدة حين يعجز الأب عن توفير الكفن لطفلته الميتة، وتصل
المفارقة في هذه القصيدة إلى ذروتها بسؤال الطفل لأبيه؛ إذا ما كان باستطاعته أن
يبيع القميص ليشتري بثمنه الكفن، ثم يغفوا الصغير ويبقى الأب وحيداً مؤرقاً يملأ
الأسى نفسه.
وتكتمل
المفارقة الدرامية في القصيدة بعد ما يتحول الثوب- الذي اشتراه الأب لطفله ليفرحه
به – إلى كفن لطفلته الميتة.
أفكـر فـي الجـثة الـباردة ومن أين آتي لها بالكفن؟؟
ويـذكر
طفلـي فـيسأل بابا! ألمـَّا تجد لقميصي ثمن؟
فـأذكر أن القميص بجيبـي ولكننـي قـلتُ: لا لم أجد
ويـغفو الصغير بـخدٍّ بلـيلٍ
وأبقى وحيد
الأسى والعدد
ويـسألني الموت عن حـقه
وفي جيبي الحجة المسكتهْ
فـأخرج
ذاك القميص الجميل وأجـعله كـفن
المـيتهْ؟!
[مع الفجر – ص 96]
والملاحظ
أن الأطراف في هذه القصيدة قد حافظت على استقلاليتها فالباث يبقى باثا محافظاً ما
أمكن على حياده، وعلى نقل الحدث للمتلقي دون تدخله والضحية بدوره يبقي الضحية.
والسؤال
الذي يطرح نفسه، ونظن أنه على درجة من الأهمية، وهو: لماذا جعل راشد حسين ثوب
الطفل الكفن؟! لعل وعي الشاعر بإحداث أبلغ الأثر بذلك ليصل بالحدث إلى قمة
المفارقة "بأقل الوسائل تبذيراً"
كما يقول "ماكس بيربوم".
[دي. سي. ميويك- ط2- 1987 – ص 63]
2-
قصيدة الله لاجئ والمفارقة الرومانسية:
ألقيت
هذه القصيدة في مؤتمر منظمة المزارعين العرب الذي عقد في عكا احتجاجاً على قانون
(تركيز الأراضي) قانون الحاضر الغائب، الغائب يسلب الحاضر أرضه والأوقاف الإسلامية
صودرت أيضاً .. على اعتبار أن مالكها غائب .. لاجئ!
ومن الجدير بالذكر أن هذه
القصيدة كانت تحفظها الجماهير عن ظهر قلب ونشرت أكثر من مرة في صحف ومجلات العواصم
العربية، وكثيرون كانوا يحفظونها وما زلوا وهم لا يعرفون أنها لراشد حسين، وإن كان
ذلك لا يهم كثيراً؛ فشعراء الشعب دائماً كانوا ينكرون ذاتهم وشاعرنا واحد من
هؤلاء.
وهذه القصيدة "الله
لاجئ" يستدعى الحديث عنها هنا تناولها من زاوية كونها تمثل نموذجاً جيداً
لنمط مهم من أنماط المفارقة، وهو المفارقة الرومانسية التي طالما "نالت في
الدراسات الغربية من الاهتمام ما لم تنله بقية أنماط المفارقة. كما أنها اكتسبت
مفهوم النظرية الخاصة بها. وهذا ما لم تكتسبه الأنماط الأخرى منفردة".
[المفارقة والأدب – د. خالد سليمان – ص32]
تطالعنا المفارقة في هذه
القصيدة أول ما تطالعنا من خلال العنوان.
تقدم القصيدة رسالتها من
خلال دورتين، يأتي الخطاب على لسان الضحية/الشاعر الذي يعرض مفهوم قوانين الاحتلال
وهو مفهوم مشوه والذي عرف حينئذٍ "بقانون أملاك الغائبين" الذي يقضي
بالاستيلاء على أملاك الفلسطينيين الذين طردهم الصهاينة من أرضهم وأملاكهم قصراً
وبالقوة.
الله أصـبح لاجـئاًً
يـا سـيدي صادر إذن حتى فراش المسجد
وبـع الكنيسة فهي من
أملاكـه وبع المؤذن في المزاد الأسود
وأطفئ ذبـالات النجوم فإنـها
ستضـيء درب التائه المتشرد
حتـى يتامـانا أبـوهم "غائـب" صادر يتامـانا إذن يـا سيدي!
لا تعتذر! من قـال إنـك ظالمٌ؟! لا تنفعل! من قال
إنك معتد؟!
حررتَ حتـى السائمات غداة أن أعطـيت "أبراهام" حقل
"محمد"
فـالخيل في قمم الجـبال
طليقةٌ قاس .. لتصبح ملكَ أمدن
سيَّد؟
والأرض تقرئك السـلام وقمحها
شكرٌ تجمع في بحـيرة عسجد!
أولم تحرر عـنقها من حـارثٍ والثور يستـشفي أمـام المذود
فالعدل أنت .. وكل طاغٍ يشتهي
لصباح عدلك أن يكون بلا غد
وتأتي الدورة الثانية من
القصيدة، ليقوم الشاعر بكشف ما في الحقيقة من تناقضات وتدمير هذا الوهم الذي خلقه
في الدورة الأولى وتحطيمه من خلال تغيير في النبرة والأسلوب ومن خلال الملاحظات
الذاتية ليضع الطرف الآخر أمام الحقيقة وقد تعرت مستخدماً الأسلوب التقريري:
أنـت الـذي
قتل الربـيع .. فبيدري غضـب يـهدُّ
وثـورةٌ لـم تخمد
أنت الـذي لغمت يـداك حـدائقـي
ونسفتَ مـوسم لـوزهـا المتورد
ولكم نُفيتُ .. فقـيل: أشرف
حـاكم ولـكم سُجنْتُ فقـيل: أعدل سيدِ!
وجـبلت ( نـواباً ) لنعـبدهم وهـم مستعـبدٌ يبكـي علـى مستعـبد
وأردتنـي عـبداً يُـباعُ ويُشـترى
وأردتنـي يـأساً يعـيش بـلا دد
وصـرختَ: أنت بـقيةٌ مـن أمـةٍ منـشورة بـين المـغاور فـاقعد
ونـسيـتَ أنَّ لفـيفـةً مـتروكـةً تكفي لتحرق .. أو تضيء لتهتدي!
لا تنـفعـل! هـذا الكـلام بـلا
فم لا تـنذعر! هـذا كـلام بـلا يد
من أين هـذي
الأرض؟ إنَّ تـرابها نارٌ ..
فكيف حملت نـار الموقد؟
من أين هذا القمـح؟ كيف سرقتـَهً؟ وبـذوره مـن دمـعنا المتـجمد؟
أنا لو عصرتُ رغيف خبزك في يدي
لرأيت بعضَ دمي يسيل على يدي!
[صواريخ – 128]
هذا البناء القائم منذ
البداية على مواقف تتمثل فيها مفارقات، ابتداءً من خلق الوهم الذي يمثل وجهة نظر
الطرف الآخر، وهو العدو الصهيوني، ثم هدم هذا الوهم الذي كان يوحد بينهما بينما
تظل الهاوية التي تفرق بينهما واقعاً وحقيقة رغم ما فيها من مرارة وألم.
ليقف الشاعر الذي يمثل
الضحية والطرف الآخر الذي يمثل الجلاد وجهاً لوجه، أمام الحقيقة وقد تعرت؛ لينتزع
من عدوه اعترافاً بهذه الجرائم التي ارتكبت بحق الوطن الفلسطيني إنساناً وشجراً وحجراً
ومقدسات.
تطالعنا
المفارقة في هذا النص أول ما تطالعنا من خلال عنوانه.
فالقصيدة
ذات نفس ملحمي أراد الشاعر فيها أن يشرح رأي شعبنا الفلسطيني، وهو يريد أن يقول:
إذا كانت أوربا النازية قد عذبت اليهود فما هو ذنب الشعب الفلسطيني؟ ولماذا ترتكب
الصهيونية – التي تدعي أنها حامية اليهود – الجرائم ضد شعبنا الفلسطيني.
في
الدورة الأولى يقوم الشاعر بعرض مفهوم الوطن عند الشاعر والمتمثل في مدينته (يافا)
وما حل بها بعد النكبة حين تحولت إلى مدينة بلا قلب، بلا قمر، تفوح من مداخنها
رائحة الموت والخدر، تصدِّر لاجئين بعد أن كانت تصدِّر البرتقال.
مداخن الحشيش في (يافا)
توزع الخدر
والطرق العجاف حبلى ..
بالذباب والضجر
وقلب يافا صامت ... أغلقه
حجر
وفي شوارع السما .. جنازة
القمر
يافا بلا قلب إذن؟!
يافا بلا قمر؟!
يافا .. دم على حجر؟!
يافا التي رضعتُ من أثدائها
حليب البرتقال
تعطش؟!؟! وهي من سقت
أمواجها المطر!
يافا التي حطمت الأيام فوق
هذه الرمال
ذراعها شلت؟
وظهرها انكسر؟!
يافا ... التي كانت حديقة أشجارها الرجال
قد مسخت محششة توزع الخدر؟؟
(يافا – لمن يجهلها – كانت
مدينة
مهنتها تصدير البرتقال
وذات يوم
هدمت ... وحولوا
مهنتها تصدير لاجئين)
ثم يأتي
مفهوم الوطن الذي ينتمي إلى الطرف الآخر وهو الطرف المعادي، المتمثل في يافا
المشردة، تلك العصابات التي جاءت من خلف البحار بعد أن نفاها الغرب ونال منها
النازي وقد تعمد شاعرنا أن يأتي بهذا المفهوم المشوه للوطن ليستدعي استحضار الدلالة
الأكثر حضوراً وعمقاً وأهميةً للوطن. وكأني بالشاعر يستمرئ كشف المهاجر الذي أصبح
يملك الأرض ويسيطر على الوطن، وبين مفهوم الشاعر/ابن فلسطين الذي أصبح لا يملك الأرض
للوطن ذاته.
لحظتها صبية تبحث عن عنوان
جاءت مع الأمواج
هودجها لوح من الخشب
يركض خلفها النازي بالغازات
والأفران
يطلق خلفها القبر واللهب
كان اسمها كاسم مدينتي
يافا اسمها
تاريخها: ستة أرقام على
ذراعها
وأربعون مليوناً ترمدوا ترمد
الحطب
جميلة كانت ... كأنها
مدينتي
مهدومة .. كأنها مدينتي
كأن ما مر بنا ...
مر بنا لنلتقي؟!
ثم نحب؟!
***
الشمس صاحية
وحين تصحو الشمس يمطر الظلام
الشمس صاحية
والليل في طريقنا مهر بلا لجام
لكن في عتمتنا فرناً، فتى
نيرانه مراهقة
ما برح الحليب في أسنانه
لكنه يقلد العمالقة
***
لكن "يافا" همست:
"لعل هذا الفرن يعطينا شهاب نار
به نضئ دربنا
عليه نشوي خبزنا
جربت أفران الكبار
جرب أفران الصغار"
قلت "ليافا":
"التهم الفرن جميع ما
أملكه من التراب
لم يبق من أرضى سوى أنا
لذا أريد أن أعيش!
علَّ تراب بدني
يثمر طفلاً ... من جديد
يبعث التراب"
فتمتمت:
"يقال هذا الفرن قام
حتى يصنع الأطفال
لعله من حبنا يثمر طفلاً ..
فتعال"
ويأتي
الجزء الثاني من القصيدة المتمثل في الصرخة، وكما فعل الشاعر في الجزء الأول من
القصيدة، يقوم في هذا الجزء بتوجيه مجموعة أخرى من الأسئلة، بعد أن يصل الحريق إلى
مفاصل الشاعر لتنطلق الصرخة الأولى:
مدينتي
يافا ... ! الحريق في مفاصلي
أين حليب
البرتقال يطفئ الحريق؟!
حبيبتي
(يافا) ... ! الطريق أغلقت
أين دموع
الحب ... تفتح الطريق؟!
لكن
(يافا) لم تجب ...
وحين
نادت لم أجب
والفرن
يشوي لحمنا ... يحرق حبنا
أحطابه
عظام لاجئين في عيوننا
وتبلغ
المأساة ذروتها في هذا الجزء، بتوجيه مجموعة أخرى من الأسئلة إلى كل الصهاينة
أينما وجدوا وعلى مختلف مشاربهم ومعتقداتهم السياسية والأيديولوجية ومن يقف وراءهم
ويؤازرهم من القوى العظمى في الغرب أو من يتواطأ معهم في الشرق من خلال إطلاق صرخة
ثانية:
يا شرطي الله ... هل سلخت
ساعدي
لترفع السواعد التي مزقها
سواي؟
يا شرطي الله ... هل قتل
كواكبي
سيشعل الكواكب التي أطفأها
سواي؟
يا شرطي الله ... حيث كنت:
في التوراة
في نيويورك
في لندن
في باريس
يا مختار ... يا رسول!
هلا وشمت ساعدي بآية تقول:
" هذا الفتى كان له
جلد .. أنا سلخته
كان له نجم .. أنا أطفأته
ووطن قتلته ...
كنت بلا جلد ... بلا نجم
... بلا وطن
أحرقني النازي ...
فليدفع هذا الفتى
الثمن"؟
هلا ... !؟
..................................
("يافا" التي حسبتها لاجئة معذبة
تحب من يافا مدينتي
حجارة بها تحك الرقم عن
ذراعها
لكنها مخطئة إن حسبت
حجارة مسروقة تبني خلايا
جرحها) [أنا الأرض، الحب الجيتو- ص 66]
وهنا
لابد أن يبرز السؤال التالي:
ما الذي
جعل راشد حسين يقدم نهاية القصيدة على هذا النحو؟ والإجابة على ذلك يسيره، إذ إن
بناء القصيدة، كما نرى، على مواقف تقوم أساساً على المفارقة هو الذي أملى عليه هذه
النهاية؛ ذلك إن الطرفين اللذين تعلقت بهما هذه المواقف وهما (الباث) و(الضحية) قد
تشابكت أدوارهم واختلطت. فالباث لا يبقى طرفاً حيادياً يعرض الفعل أو الحدث، بل هو
يتحول إلى (متلقٍ) وإلى ضحية، في حين أن الطرف الآخر (العدو) الذي كان ضحية من قبل
يتحول إلى جلاد، وتحوله إلى ذلك لم يكن ليتم أو يتحقق إلا من خلال توجيه النهاية
في القصيدة لتأتي على النحو الذي أتت عليه.
ومثل هذا
التفسير لا يلغي رغبة الشاعر في البحث عن الجانب الإنساني في نفس الطرف الآخر
(الجلاد) لاسيما من ذوي الضمائر الحية إذ إن الصهيونية لا تستطيع الإجابة على هذه
التساؤلات.
الخاتمة:
لعل
الأمثلة السابقة، قد نجحت في كشف جوانب مهمة في وعي شاعرنا، بتوظيف المفارقة لتقوم
بكشف التضاد والتناقض، بين ما هو حقيقة، وبين ما هو وهم، في رحلة عذاب طويلة، يسعى
من خلالها إلى ممارسة نوع من التوازن بين خلق الذات وبين هدمها، جاعلاً للتقنية
التي توفرها المفارقة كشكل من أشكال التعبير الشعري نصيباً وافراً في قصائده؛ بحيث
لا تصبح المفارقة في شعره مجرد وسيلة بلاغية أو جمالية فحسب، وإنما هي إلى جانب
ذلك وسيلة فلسفية تفضح لتكشف، وتهدم لتبني، وتضحك لتبكي، وتهمس لتصرخ، وتتشكك
لتتأكد وتؤكد ، بمثل هذه البنية التي يمكن تسميتها بالمفارقة.
من أهم نتائج البحث:
-
لم يأخذ
شاعرنا حقه من الشهرة والدراسة على الرغم من ريادته للشعر الفلسطيني بعد النكبة
الأولى. فقد حمل جراح شعبه منذ العام 1948م، وحتى استشهاده 1977 في غربته الإجبارية.
-
قدم
شاعرنا أدباً مناضلاً لا تقل أهميته عن المقاومة المسلحة، وإلاَّ لما اغتالت
الصهيونية الكثير منهم أمثال عبد الرحيم محمود، وغسان كنفاني وكمال ناصر وراشد حسين
وغيرهم.
-
يرى راشد
حسين أن تراث العبودية يفرز عبودية جديدة، لذا فإنه يرى أهمية الكفاح لصنع غد
أفضل.
-
خلص
البحث إلى أن وعي الشاعر بالمفارقة وبدورها الفعال في شعره، قد جاء مبكراً ومنذ
ديوانه الأول مع الفجر الذي صدر 1957.
-
المفارقة
عند شاعرنا وليدة موقف نفسي وعقلي وسياسي وثقافي معين، إذ إن قمة الألم تتحول إلى
سخرية.
-
استخدم
شاعرنا المفارقة كأداة شعبية ثقافية ضد القمع والاضطهاد السياسي الصهيوني والعربي؛
إذ كان يهدف من خلالها إلى المواجهة والتعبئة والتغيير.
-
مفارقة
راشد حسين كانت من نوع خاص لا يتقنه إلا صاحب موهبة وإدراك ودقة ملاحظة وذكاء
وحساسية، فضلاً عن الخبرة والثقافة التي تصقل كل ذلك وتؤصله.
-
تشع
السخرية المرة من قلب المفارقة في شعر راشد حسين، وإن كان من الصعب أن نفصل ذرات
السخرية عن ذرات المفارقة لأنهما من طينة واحدة.
-
إن هدف
مفارقة شاعرنا هو الواقع المرير أي موضوعي وغير شخصي رغم الصلة الوثيقة بينهما.
-
استخدم
شاعرنا في مفارقاته عبارات مستمدة من اللغة الدارجة وبعض الألفاظ الأجنبية.
-
استخدم
شاعرنا وسائل وأنماطاً عديدة في مفارقاته كأسلوب الأمر والاستفهام، واستخدام اللغة
المحكية، والمقابلات، والمفارقة اللفظية والبلاغية، والمعارضة والتضمين، وعناوين
القصائد إلى غير ذلك من أنماط المفارقة كمفارقة القدر والمفارقة الرومانسية
ومفارقة الموقف وغيرها.
-
إن
المفارقة في شعره لم تقتصر على كونها وسيلة بلاغية وجمالية في النص، بل أصبحت
تقنية فنية بني عليها عدداً كبيراً من قصائده.
المراجع:
أولاً: المراجع العامة:
1-
القرآن
الكريم.
2-
القاموس الوسيط.
3-
القاموس
المنجد.
ثانياً: المصادر والمراجع العربية:
- إبراهيم طوقان – ديوان إبراهيم طوقان – دار اللوتس – ط1 - عمان – 1992م.
- أبو فراس الحمداني – ديوان أبى فراس الحمداني – المطبعة الأدبية – بيروت – 1900م.
- أحمد شوقي – ديوان الشوقيات – الجزء الأول – دار الكتب العلمية – بيروت – لبنان.
- البحتري – ديوان البحتري – المجلد الرابع – دار المعارف – القاهرة.
- السكاكي- التلخيص في علوم البلاغة – ضبط وشرح عبد الرحمن البرقوقي – دار الكاتب العربي – بيروت – مقدمة الشارح.
- المتنبي – ديوان المتنبي – منشورات دار مكتبة الحياة – بيروت – 1968م.
- المتوكل طه – إبراهيم طوقان – دراسة في شعره – ط1 – 1992م.
- الساخر والجسد – دار اللوتس – عمان – ط1- 1992م.
- خالد سليمان – المفارقة والأدب – دار الشروق – عمان – ط1- 1999م.
- راشد حسين – ديوان أنا الأرض لا تحرميني المطر – بيروت – 1983م.
- ديوان راشد حسين – دار العودة – بيروت – 1987م.
- ديوان صواريخ - دار العودة – بيروت – 1982م.
- ديوان قصائد فلسطينية – دار العودة – بيروت – 1982م.
- ديوان مع الفجر – دار العودة – بيروت – 1982م.
- سيزا قاسم – المفارقة في القص العربي المعاصر – مجلة فصول – المجلد الثاني – العدد الثاني – 1982م.
- عز الدين المناصرة – مقدمة في ديوان أنا الأرض لا تحرميني المطر – دار العودة – بيروت – 1983م.
- مقدمة ديوان مع الفجر – دار العودة – بيروت – 1982م.
- محمود درويش – لقاء – دفاتر ثقافية – العدد 3 يونيو 1996 م.
- محمود غنايم – دراسة في شعر عبد الرحيم محمود- منشورات وكالة أبو عرفة – القدس – ط1- 1980م.
- نزار قباني – الأعمال الشعرية الكاملة لنزار – المجلد الثاني – منشورات نزار قباني – بيروت – لبنان.
ثالثاً: المراجع الأجنبية:
- Concise Oxford Dictionary.
- D.J. Enright. The Alluring Problem,p.13.
- دي. سي. ميوك: المفارقة وصفاتها، ترجمة: د.عبد الواحد لؤلؤة – دار المأمون للترجمة والنشر – بغداد – ط2 – 1987م.
- Marik Finaly: The Romantic Irony of Semiotics, Moution de Gruyter , Berlin and New York , 1988, pp. 11-12.
* أستاذ الأدب والنقد الحديث
المشارك بكلية الآداب- جامعة الأقصى.
* ولد راشد حسين في قرية مصمص في المثلث الشمالي سنة 1936 لعائلة فلاحية متوسطة الحال بدأ كتابة
الشعر في سن مبكرة . وفي مدة وجيزة أصبح شاعر الساحة الفلسطينية الأول في الداخل الفلسطيني . وأصدر ديوانه الأول في سن العشرين .. عرف كمؤسس لشعر المقاومة الفلسطينية الملتزم في
الداخل، وأصبح أحد رموز هذا الشعر لدى الجماهير التي حفظت
شعره وتغنت به . عمل محرراً لمجلة
"الفجر" ، " المرصاد " والمصوّر ، وكان نشطاً في صفوف حزب
العمال
الموحد، سافر إلى سوريا خلال حرب 1973 وعمل محررا ً في
الإذاعة السورية للقسم العبري، وشارك في تأسيس مؤسسة
الدراسات الفلسطينية
. انضم إلى
منظمة التحرير الفلسطينية وعمل ممثلا ً ثقافيا ً لها في الأمم المتحدة ، ثم عمل في وكالة الأنباء الفلسطينية " وفا .. وفي الأول من شباط
(فبراير) عام 1977 ذكرت وكالات الأنباء، نقلاً عن تقارير شرطة مدينة نيويورك، أن
الشاعر الفلسطيني راشد حسين مات مختنقاً نتيجة حريق شب في غرفته في ظروف غامضة.
وقد أعيد جثمانه إلى مسقط رأسه في قرية مصمص حيث ووري هناك .. وسط احتجاج الصحافة الصهيونية على عودة جثمانه
إلى فلسطين. ولقد منح اسمه وسام القدس
للثقافة والفنون في عام 1990. أعماله الشعرية": مع الفجر" ،
"صواريخ" ، "أنا
الأرض لا تحرميني المطر"،" قصائد فلسطينية وديوان راشد حسين ، وغيرها من الأعمال
المترجمة
* فقد ورد مسكينة هنا على غير معناه اللغوي، بل بمعنى الطيِّبة التي تجهل الأمر.
[*] " إنني أعتبر نفسي
كفلسطيني ، وكنتاج هذه الأرض الفلسطينية ، أحد الذين يملكون حق أن يرثوا كل تاريخ
الإبداع والثقافة التي جرى على هذه الأرض" } محمود درويش – 1996- ص 5{
* الجيتو: السجن، أو الأماكن
المغلقة المحاطة بالأسلاك والبوابات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق